الانتفاضة. : بقلم محمد السعيد مازغ
لم يكن أحمد يعلم أن قراره ذاك سيجرّه إلى دوامة من التحديات والمخاطر. عندما خطى أولى خطواته نحو قسم الشرطة، كان مقتنعًا بأنه يسعى لتحقيق العدالة، غير مدرك أن خصمه لم يكن شخصًا عاديًا، بل رجلاً متمرسًا في التهرب من العقاب، يجيد اللعب في الظل، يُسكت الأفواه بالمال والهدايا، ويحيط نفسه بهالة من النفوذ المزيف. لم يكن يعترف بالقانون، بل كان يعتبره مجرد عقبة يمكن تجاوزها بالرشاوى والولائم. جلس أحمد أمام الضابط، يسرد تفاصيل الاعتداء الذي تعرض له، لكن الأمور لم تكن بسيطة كما توقع. طلب منه الضابط شهادة طبية تُثبت الضرر الذي لحق به، لكن أحمد لم يكن يحمل جروحًا ظاهرة، كان الألم في داخله، أعمق من أن يراه أحد. تردد كثيرًا قبل أن يتجه إلى عيادة الطبيب، وفي النهاية قرر أن يبوح له بالحقيقة كاملة: “تعرضت لعنف لفظي أكثر من الجسدي، والآن أشعر بالخوف من المكائد التي قد تدمر حياتي.”. تأمل الطبيب في حديثه، ثم أمسك بوصفة طبية وكتب له بعض المهدئات، قبل أن يقول بحزم: “لا يمكنني منحك شهادة زور. لقد أقسمت على النزاهة حين اخترت هذه المهنة، ولن أخون القسم.” خرج أحمد من العيادة يتأمل كلمات الطبيب، وعلى الرغم من أن الأخير لم يمنحه ما كان يريده، إلا أنه شعر بإعجاب واحترام تجاهه، مرددًا في نفسه: “لن أنام معه في قبره، ولن أدفعه لمخالفة ضميره.”. عند عودته إلى مركز الشرطة، أخبر الضابط بأنه لم يتمكن من الحصول على شهادة طبية، لكنه أضاف بصوت واثق: “لدي شهود رأوا كل شيء، وهناك كاميرا في المكان سجلت الحادثة.” لاحظ أحمد ابتسامة غامضة ترتسم على وجه الضابط، وحركات رأسه التي لم يستطع تفسيرها، حتى نطق الضابط أخيرًا: “يبدو أن خصمك لم يقف مكتوف الأيدي… لقد تقدم بشكوى مضادة يدّعي فيها أنك أنت المعتدي، ومعه شهادة طبية تثبت أنه بحاجة إلى أكثر من ثلاثة أشهر من العلاج.”
شعر أحمد بغضب يتفجر في صدره، قبض على يديه بغليان وهو يصرخ: “أطباء أم سماسرة؟ كيف يمنحون شواهد طبية زورًا؟ كيف يشهدون بالباطل؟!”. لكن الضابط ربت على كتفه، قائلاً بصوت مطمئن: “لا تقلق، سنكشف الحقيقة. سأشرف بنفسي على التحقيق، وسنفرغ تسجيلات الكاميرا. العدالة لا تُشترى، وما زال هناك شرفاء لا يخافون إلا الله.”. وبالفعل، رغم كل المحاولات لقلب الحقيقة، لم يجدِ التزوير نفعًا. كشفت الأدلة ما حاول خصمه إخفاءه، أدرك أحمد أنه لم يكن أول ضحية شهادة مزورة كادت تقلب الموازين ،غقد اصبحت الشواهد الطبية المزورة عملة رائجة يلجأ اليها عدد من التلاميذ والطلبة دون الخضوع لأي فحص طبي حقيقي، وذلك لتبرير تغيباتهم غير المبررة أمام إدارات المؤسسات التعليمية. وقد يلجأ البعض إلى وسطاء أو أطباء غير نزهاء، ممن يسهلون الحصول على هذه الشهادات مقابل مبالغ مالية أو مجاملات. ويا ليت توقف الأمر عند غياب عن حصة دراسية بل الأمر يتعدى ذلك إذ أن هذه الشهادات لا تقتصر على تبرير الغياب الدراسي فقط، بل قد تُستخدم في قضايا أكثر خطورة، تؤدي أحيانًا إلى زج أبرياء في السجون بسبب شهادات طبية كاذبة تدعم اتهامات باطلة. هذا السلوك المشين لا يقتصر تأثيره على الأفراد فحسب، بل يضر بمصداقية النظام القضائي ويؤدي إلى تراجع الثقة في العدالة، فضلًا عن تكبيد شركات التأمين خسائر مالية فادحة بسبب المطالبات الزائفة. تنفس احمد الصعداء وهو يتلقى خبر الحكم الذي قضت به المحكمة، حيث حكمت على المعتدي بعقوبةٍ زجرية لم يكن يتوقع يوما انه سيدان بفعل سلوكه الطائش . خرج أحمد من القاعة منتصرًا، لم يكن انتصاره فقط في إثبات براءته، بل في اكتشافه أن العدل، مهما حاولوا طمسه، لا بد أن يظهر يومًا.
التعليقات مغلقة.