عِبرة العيد: حين يفتح الأضحى أفقاً لتغيير العقليات

الانتفاضة // أبو علي بلمزيان

ما حدث هذا العام في عيد الأضحى لم يكن عادياً ولا عابراً، بل شكل لحظة فارقة تستدعي الوقوف والتأمل، بل وتستلزم من الفقهاء والعلماء والمفكرين أن يُعملوا النظر الشرعي والاجتماعي والاقتصادي في ضوء المتغيرات التي أثبتت أن فقه الواقع لا يقل منزلة عن فقه النص. لقد مر العيد على المغاربة هذه السنة في ظل ظرف استثنائي اقتضى إلغاء شعيرة الذبح، مع الإبقاء على باقي الطقوس والعبادات المتصلة بهذه المناسبة، من صلاة وتكبير وصلة رحم ولباس جميل وتبادل التهاني، ومع ذلك لم تفقد المناسبة معناها الديني ولا بهجتها الروحية، بل على العكس من ذلك، تحولت إلى لحظة تأمل جماعي واسترجاع للقيم الأصلية التي شُرع من أجلها هذا العيد المبارك.

لقد بدت المدن المغربية نظيفة وجميلة في صباح العيد، خالية من الدماء ومخلفات الذبح التي طالما حولت شوارعنا إلى مسارح للقاذورات والروائح الكريهة، وكأن الطبيعة نفسها تنفست الصعداء من مشهد لم تعهده منذ عقود. كما تنفست جيوب الفقراء بدورها بعضاً من الارتياح، وهم يعبرون هذه المناسبة دون حرج أو استدانة أو إحساس بالعجز، ودون الخضوع لمنطق الاستهلاك الذي حول الأضحية من عبادة إلى عبء، ومن سنة إلى سيف مسلط على رقاب الكادحين، ومن رمز للتقوى إلى مظهر للتفاخر والرياء.

إن المقصد الشرعي من الأضحية ليس ذبح الكبش في حد ذاته، بل هو تجسيد لقيم التضحية والطاعة والتكافل، واستحضار لقصة إبراهيم الخليل ، حين فدى الله ابنه بذبح عظيم، فجعلنا من هذا المشهد نبراساً للتقوى لا موضعاً للمباهاة. وإذا كانت الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال، أفليس من باب أولى أن يُعاد النظر في الكيفية التي نحتفل بها بهذه الشعيرة؟ أليس من حق المغاربة، وهم يرون انعكاسات هذا القرار الإيجابي بيئياً واقتصادياً واجتماعياً، أن يتساءلوا عن إمكانية تثبيت هذا النموذج، أو على الأقل جعله خياراً شرعياً لمن أراد، دون أن يُرمى بالتقصير أو يتعرض للوصم الديني؟

لقد بات من الضروري أن يتحمل فقهاؤنا مسؤوليتهم الاجتهادية، لا أن يظلوا أسرى الفهم الحرفي للنصوص، وأن ينظروا إلى الأضحية باعتبارها عبادة مقصودة بالمآل لا بالشكل، وأن يقترحوا اجتهاداً تأويلياً يفتح الباب أمام المغاربة للاحتفاء بعيدهم على نحو يحفظ الطقس الديني دون أن يرهق الفقراء، ويصون البيئة دون أن يمس بحرمة العبادة. ولا يخفى على أحد أن الإسلام، في جوهره، دين رحمة وتيسير، لا تعسير فيه ولا تكليف لما لا يُطاق، وما أحوجنا اليوم إلى استحضار هذا المعنى العميق ونحن نعيش في عالم تتزايد فيه تحديات الفقر وتغير المناخ وغلاء المعيشة.

إن العيد الذي احتفلنا به هذا العام لم يكن ناقصاً في شيء، بل قد يكون أقرب إلى روح الإسلام مما تعودنا عليه، لأنه أعاد للعيد وظيفته الأصلية كفرصة للتآزر الاجتماعي والتقرب إلى الله بالنية والعمل الصالح، لا بمجرد الذبح الاستعراضي الذي يستهلك الطقوس دون أن يدرك المقاصد. وهنا يحق للمغاربة، في ضوء هذه التجربة، أن يطرحوا سؤال الاجتهاد المعاصر، لا من باب الطعن في النص، وإنما من باب الوصل بينه وبين واقع الناس، بما يجعل الدين معيناً لهم لا عبئاً عليهم.

فهل يستطيع فقهاؤنا أن يصغوا إلى نبض الشارع المسلم بعقل منفتح وقلب رحيم؟ هل يمكن أن نؤسس لعيد أضحى مغربي يحتفي بالقيم دون أن يذبح الفقراء كرامتهم أو تدفع المدن ثمن سوء التدبير البيئي؟ سؤال مشروع، بل وملحّ، والإجابة عليه ليست وقفاً على العاطفة أو التقليد، بل على الفهم العميق لرسالة الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين، لا مشهداً لمذابح جماعية قد تبهج البعض، لكنها تؤلم الكثيرين في صمت.

التعليقات مغلقة.