مفهوم المخيال عند محمد أركون

الانتفاضة // نبيل سحنون

تناول الباحث المغربي و أستاذ الفلسفة محمد الشبة مفهوم المخيال عند المفكر الجزائري محمد أركون و دلالاته و إستعمالاته و دوره الوظيفي في تحريك العواطف الجماهير و تجييشها في منعطفات التاريخية الكبرى التي تعرفها المجتمعات الإسلامية.

يقول في مدخل الكتاب:

“يهدف أركون في دراسته للمخيال إلى تقديم تفسير وتحليل وفهم للآلية الوظائفية التي يتمتع بها هذا المصطلح، في قدرته على تحريك العواطف وتجييشها في المنعطفات التاريخية الكبرى التي تعرفها المجتمعات الإسلامية.”

وانطلاقاً من هذا التفسير وهذا الفهم، يحاول أركون تكسير تلك الازدواجية الوهمية التي توضع عادة بين الإسلام والغرب، والتي ترتب عنها وجود مخيال غربي تجاه الإسلام ومخيال إسلامي تجاه الغرب. وهذين المخيالين غالباً ما يقدمان صورة سلبية عن الإسلام كدين سماوي.”

و يضيف “وقد أدى اهتمام أركون بالبعد الأسطوري والمجازي إلى تدعيم ترسانته المفاهيمية في مقاربة النص الإسلامي، بمفهوم المخيال (Imaginaire) الذي تمت بلورته في الأبحاث الأنثروبولوجية وعلم التاريخ الحديث. فهذا المصطلح يحتل أهمية مركزية في فكر أركون، الذي يستخدمه كرد فعل على التطرف المادي أو الماركسوي في دراسة التاريخ. فليس العامل المادي وحده هو الذي يحسم حركة التاريخ، بل إن العامل الرمزي يلعب دوره أيضاً في هذه الحركة، وبخاصة في المجتمعات القروسطية حيث كان اقتصاد الكفاف هو السائد، وعموماً في كل المجتمعات الزراعية ما قبل الصناعية”

عن مفهوم المخيال:

إن كلمة مخيال Imaginaire هي غير كلمة خيال Imagination، وإن كانتا تنتميان إلى نفس الجذر اللغوي. فالمخيال يتشكل تاريخيا في الذاكرة الجماعية أو في الذهن، ويمكن استغلاله سياسيا وإيديولوجيا في اللحظات التاريخية العصيبة. فهو يضرب بجذوره في أعماق اللاوعي عبر تشكله خلال مختلف المراحل التاريخية. هكذا نتحدث مثلا عن مخيال إسلامي ضد الغرب، أو مخيال غربي ضد الإسلام. فالمخيال هنا هو عبارة عن شبكة من الصور التي تستثار في أية لحظة بشكل لاواع وكنوع من رد الفعل. بل ويوجد متخيل (مخيال) كاثوليكي ضد البروتستانت أو بروتستانتي ضد الكاثوليك، أو شيعي ضد السنة أو سني ضد الشيعة، الخ… كل فئة تشكل صورة محددة عن الفئة الأخرى، وترسخ هذه الصورة بمرور الزمن في الوعي الجماعي.”

الأسطورة في الفكر الإسلامي:

“وفي هذا السياق يرى أركون أن علم الأنثروبولوجيا المعاصر يتيح لنا أن نتحدث عن وجود معرفة ذات نمط أسطوري، وهو ما لا يفهمه أو يقبله أناس العصور الوسطى. فالفكر الإسلامي لا يزال في نظره بعيدا عن مفهوم الأسطورة le mythe بحسب المعنى الأنثروبولوجي الحديث، فهو يفهمها بمعناها القديم المكرس في اللغة العربية معنى الخرافات والأباطيل.”

تحدث المؤلف عن مفهومين المفهوم”المخيال الجماعي ” و مفهوم ” المخيال الإسلامي” و كيفية إستغلالهما:

“إن الإنسان لا تحركه فقط الحوافز المادية والاقتصادية، وإنما تسيره أيضاً الصور الخيالية والأحلام الوردية. فكثيراً ما يتهيج الناس وتخرج الجماهير إلى الشارع لمجرد أن شخصاً قد ضرب على وتر المخيال الجماعي، أو عرف كيف يحرك النوابض الأساسية لهذا المخيال. والمخيال الإسلامي الذي حركه الخميني بشكل هائل هو من هذا النوع. ولهذا المخيال تاريخ يضرب بجذوره في أعماق التاريخ الإسلامي. وقل الأمر نفسه عن المخيال الذي تحركه الحركات الإسلاموية الحالية بمجملها. هكذا وجب حسب أركون القيام بعمل تفكيكي للمخيال الجماعي الذي يستغله الإسلامويون في تجييش الجماهير. إنه يريد أن يعرف كيف نشأ هذا المتخيل لأول مرة وكيف تحول مع التاريخ.”

و يضيف ” إن الحركات الإسلاموية تشكل كما هائلا من الاحتجاجات والمطالب والتركيبات الإيديولوجية وأحلام اليقظة الجماعية والهلوسات الفردية التي لا تحيلنا إلى الإسلام كدين أو كتراث فكري، وإنما إلى مقدرة كل إيديولوجيا كبرى على تحريك المتخيل الاجتماعي وتغذيته وإشعال لهيبه. إن الآلية الوظائفية التي يتحلى بها هذا المتخيل في المنعطفات التاريخية الملتهبة هي التي ينبغي أن تكون المادة الأولى للتحليل والفهم والتفسير”. (2) من ثم نرى أركون يؤكد على ضرورة طرح الإشكالية النفسية واللغوية والأنثروبولوجية الخاصة بالمخيال الإسلامي، كما تبلوره الحركات الأصولوية، التي شكلت بأدبياتها وخطاباتها المتراكمة طبقات هائلة وجد متماسكة، لا سبيل إلى تفكيكها والحفر في أعماقها إلا بالتسلح بالأدوات المعرفية والمنهجية التي تمدنا بها العلوم الإنسانية المعاصرة.”

ثم يذكر المؤلف أهمية دراسة المخيال عند محمد أركون:
“إن ما يهدف إليه أركون في دراسته للمخيال، هو تقديم تفسير وتحليل وفهم للآلية الوظائفية التي يتمتع بها هذا المصطلح في قدرته على تحريك العواطف، وتجييشها في المنعطفات التاريخية الكبرى التي تعرفها المجتمعات الإسلامية. وهو يهدف أيضا من خلال هذا التفسير والفهم، تكسير تلك الازدواجية الوهمية التي توضع عادة بين “الإسلام” و”الغرب”، والتي ترتب عنها وجود مخيال غربي تجاه الإسلام ومخيال إسلامي تجاه الغرب. وهذان المخيالان غالبا ما يقدمان صورة سلبية عن الإسلام. وهذه الصورة المدمرة ناجمة عن تراكمات يحكمها منظور خاطئ لعلاقة الدين بالمجتمع والتاريخ. من هنا سوف يستمر الناس في هذا الخط مادامت الإشكالية النفسية واللغوية والأنثروبولوجية الخاصة بالمتخيل (المخيال) لم تفرض نفسها بعد على مراقبي الإسلام وشارحيه بالأمس واليوم.”

و ينبه المؤلف لعلاقة الإيديولوجيا بالمخيال:

“يقول جورج بلانديه (G. Balandier): “المقدس هو أحد أبعاد الحقل السياسي”. فهناك علاقة قوية بين مختلف عناصر الإستراتيجية السياسية؛ فالله والأموات والسحرة يدخلون في نظام السلطة مثلما يدخل فيه الأحياء من الناس. من هنا “فالمخيال الديني مهيأ جداً لأن يجيش ويعبأ من أجل شن المعارك المقدسة”. وتكمن وظيفة علمي التاريخ والأنثروبولوجيا في تعرية الحقائق المقنعة والمحجوبة من قبل المتلاعبين بالمخيال الديني.
وهكذا يميز أركون بين الحقيقة التي يريد أن يوصلها الفكر العلمي وبين “الحقيقة النفسية – الاجتماعية” التي تروج لها الحركات الجماهيرية عن طريق التجييش والتعبئة. ففي خضم الصراعات التي تعرفها المجتمعات الإسلامية في الوقت الراهن نجد كل جماعة أو حركة تشرئب بعنقها نحو الماضي التليد، تتوسل إلى أحداثه وشخوصه المرسخة بعمق في المخيال لدى المسلم، طالبة منه العون والطاقة التي تمكنها من تحميس الجماهير وحركها نحو الأهداف والمرامي المسطرة في برامجها. من هنا فقد أصبحنا…”
عن سيطرة المخيال الديني على الوعي الإسلامي يقول:
“إن سيطرة المخيال الديني على أفراد الأمة يجعل كل عضو من أعضائها يقفز على الأحداث التاريخية، ليعيش وبشكل مباشر وأسطوري مع كل السابقين واللاحقين المعتبرين كرموز وشخصيات مؤسسة لمعنويات الأمة وقيمها الخالدة. من هنا يتحدث أركون عما يسميه بالدينامو الروحي الذي يحرك آمال الجماعة المؤمنة، ويملأ عليها كل شعورها وإحساسها، كما يقدم لها غاية أنطولوجية وأخروية تخلع صبغة التقديس والتعالي على كل الأعمال التاريخية المنجزة من خلال ملابسات الصراع الأرضي. في هذا السياق يقول هاشم صالح: “لا يستطيع عقل المؤمن التقليدي أن يستوعب تاريخية الأحداث التأسيسية والشخصيات الكبرى المندمجة، لأنها تملأ عليه أقطار وعيه ويشعر نحوها برغبة التقديس، وبالتالي فلا يستطيع أن يفهم أنها مشروطة بالتاريخ أو بلحظة محددة من لحظات التاريخ. وهذا هو معنى المخيال (Imaginaire) أيضاً”.

وهكذا نجد أركون يريد الوقوف على المكونات التاريخية الأساسية التي تحتل مكانة كبرى ضمن عناصر المخيال لدى المؤمن. وانطلاقاً من هذا المنظور، نجد أن المخيال الجماعي لدى المؤمنين قد تشكل عبر تلك السيرورة الاجتماعية-التاريخية التي شهدها التاريخ الإسلامي. فهناك حقل معنوي سيمانتي ومتماثل ثابت لا يتغير، يسبح فيه أو يتحرك فيه دون أي نشاز كل الناقلين للأمانة الأصلية أو الوديعة الأولية. من هنا سينشأ تصور مثالي وأسطوري عذب للتاريخ، يغيب معه كل اعتبار لمصالح وصراعات الفئات الاجتماعية المختلفة. ويظل الوعي الإيماني يغفل الشروط الثقافية والسياسية والنفسية التي تمت فيها الصياغة الأسطورية والخيالية للأحداث التاريخية الدنيوية، كمقتل علي والحسين واضطهاد الخوارج وصلب الحلاج، الخ….”

التعليقات مغلقة.