قراءة في كتاب موسوعة “محمد عابد الجابري” “تكوين العقل العربي بنية العقل العربي العقل السياسي العربي العقل الأخلاقي العربي”

الانتفاضة // ياسر مرزوق

كتابنا اليوم “لمحمد عابد الجابري” الذي يعتبر من بين المفكرين العرب ذوي المشاريع النظرية الأكثر لفتاً للانتباه واجتذاباً للنقاش والجدل في اللحظة الراهنة، وإذا أردنا جمع هذه المشاريع حول سؤال مشترك، يمكن القول إن الهاجس الغالب عليها هو التفكير في سؤال النهضة، مع اختلاف في كيفيات طرق السؤال والإجابة عنه، بسبب تعدد واختلاف المداخل المنهجية التي توسل بها أصحاب تلك المشاريع.

أما المدخل المنهجي، الذي اختاره الجابري فلم يكن مدخلاً سياسياً ولا اقتصادياً بل أبستمولوجياً، إذ يرى أنه لا نهضة دون تحصيل آلة إنتاجها أي العقل الناهض، ولا يمكن تحصيل هذا الفكر القادر على صناعة النهضة دون نقد للعقل العربي وبحث صيرورته التاريخية وتحديد المفاهيم المتحكمة في بنيته، من أجل بيان الحاجة إلى عصر تدوين جديد يؤسس للعقل نظاماً معرفياً قادراً على الاستجابة لتحديات الراهن.

هذا المطلب هو الذي اشتغل المفكر محمد عابد الجابري بقصد إنجازه طيلة ما يقرب من نصف قرن، متوجاً ذلك بإنتاج موسوعته “نقد العقل العربي”، موضوع زاويتنا اليوم، وهو الإنجاز الذي رأت اليونسكو أنه يستحق أن يكرم في الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة سنة 2006.

وموسوعة الجابري أتت بأربع أجزاء “تكوين العقل العربي 1984، بنية العقل العربي 1986، العقل السياسي العربي 1990، العقل الأخلاقي العربي 2001” لتكون عنواناً لمشروعٍ فكري جديد، ونموذجاً لقراءة جديدة للتراث العربي تقرأ فيه ما لم يقرأ بعد، وتوظف في إطار هذه القراءة أحدث المفاهيم في حقل العلوم الإنسانية، وذلك في محاولة لاختراق جدار الصمت الذي فرضته المشاريع الإيديولوجية الصماء المنتشرة على امتداد الوطن العربي.

تنبع أهمية طروحات المفكر الجابري، في المقام الأول، من أنها تتعرض مباشرة، ربما لأول مرة، بهذه الصراحة والموضوعية والتأسيس النظري والتاريخي، إلى ما يمكن أن نطلق عليه “أزمة الإنسان العربي”، التي نسبها الجابري بحق إلى “أزمة العقل العربي”، باعتبارها السبب الأساس في فشل مشروع النهضة العربية، وبالتالي وصول العرب اليوم إلى ما هم فيه من ضعف وإذلال وتمزق وسيطرة أجنبية وتخلف حضاري واقتصادي وعلمي، على الرغم مما يزخر به الوطن العربي من ثروات طبيعية وبشرية.

ويعزو فشل مشروع النهضة العربية، الذي بدأ مطلع القرن التاسع عشر، إلى أن روادها قد استندوا في تطلعهم إلى النهوض، لـ”الآخر”، سواء تمثل هذا “الآخر” بالأجنبي “الأوروبي” الذي تحداهم عسكرياً وفكرياً، وبالتالي، حضارياً. أو تمثل بـ “الأنا”، الذي قضى نحبه منذ ستة قرون تقريباً، فأصبح “آخر” هو الآخر. أي أنهم انقسموا إلى فريقين: الأول أراد الأخذ بالنموذج الغربي، والثاني راح يتشبث بالنموذج العربي الإسلامي الذي شكل وما يزال، بالنسبة لهم، السند الذي لابد منه في عملية تأكيد الذات لمواجهة ذلك التحدي. ومهما تنوعت الآراء والاتجاهات فإن النتيجة النهائية هي الشعور”بأن “شيئاً ما” لم يتحقق، أو لم يـُنجز في هذه النهضة العربية”. ويرى الجابري أن البعض يعزو ذلك إلى العوامل الاقتصادية أو الاجتماعية أو التربوية وخاصة نشر المعرفة والعلم. والبعض يراه في الفشل في تحقيق الوحدة والتكامل. ولكنه يستدرك قائلاً: ” إن ميداناً واحداً لم تتجه إليه أصابع الاتهام بعد، وبشكل جدي وصارم، هو تلك القوة أو الملكة أو الأداة التي بها يقرأ العربي ويرى ويحلم ويفكر ويحاكم.. إنه العقل العربي ذاته”.

ولا ينسى أن يشير إلى أن رواد النهضة لم يهملوا دور الفكر في رسم طريق النهضة وقيادتها “بل إن النهضة الفكرية كانت تطرح نفسها فعلا كأولى الأولويات في مشروع النهضة..” ويرى أن رواد النهضة قد نادوا جميعاً بإعداد الفكر القادر على حمل رسالة النهضة وإنجازها، فألحوا “على نشر المعرفة وتعميم التعليم وحمل الناس على تحكيم العقل بدل الاستسلام للمكتوب أو الإذعان للخرافة”. ولكنه يستدرك فيقول إلا أنهم “لم يدركوا أو يعوا أن سلاح النقد يجب أن يسبقه ويرافقه نقد السلاح. لقد أغفلوا نقد العقل فراحوا يتصورون ويخططون لها، بل يناضلون من أجلها، إما بعقول أعدت للماضي بحسب تعبير غرامشي، وإما بمفاهيم أنتجها حاضر غير حاضرهم”. ويمكن القول أنه انطلاقاً من هذه النقطة تولد مشروعه الكبير في نقد العقل العربي ابتداءً من التكوين إلى البنية ثم السياسة فالأخلاق.

* الجزء الأول: “تكوين العقل العربي”، يشرح الجابري في هذا الكتاب ماهية العقل الذي سوف يتحدث عنه، ويلخص قوله بأنه هو القواعد الفكرية التي تحدد طريقة تفكير لكل شخص ينتمي إلى الثقافة العربية، إذن ليس هو التفكير نفسه ولكنه طرق التفكير وأسسه. ولتتبع تطور هذه الأسس والقواعد فإنه يحدد عصر التدوين كبداية للثقافة العربية المكتوبة وأيضاً كنهاية لأن الفكر العربي لم يتطور منذ تلك الفترة حتى الآن. وحتى يسهل تتبع أسس التفكير فإنه يقسم الثقافة العربية إلى ثلاثة أنواع: ثقافة بيانية وهي تهتم باللغة العربية والفقه وأصول الفقه وعلم الكلام، الثقافة الثانية هي ثقافة العرفان وتدعي هذه الثقافة أن المعرفة تأتي بالكشف والإلهام وهي تنتمي في أصلها إلى الموروث الهلنستي والغنوصي المنتشر قبل الإسلام والذي انتقل إلى الإسلام عن طريق الفلاسفة العرب أصحاب نظريات الفيض والعقول العشرة ومن ثم عن طريق المتصوفة، الثقافة الثالثة هي ثقافة البرهان وهذه الثقافة تعتمد على العقل بشكل أساسي لتحصيل المعرفة الصحيحة وهي نتيجة عن الموروث الإغريقي وخصوصا مؤلفات أفلاطون وأرسطو.

* الجزء الثاني: “بنية العقل العربي” أتى كدراسة تحليلية نقدية لنظام المعرفة في الثقافة العربية. يشرح مما تتكون كل ثقافة وماهي إشكاليتها ومآزقها، مستشهداً في كل ذلك بنصوص كثيرة من أمهات كل ثقافة، مما يفتح لك باباً واسعاً لمعرفة الثقافة العربية والاطلاع على أمهات الكتب فيها.

* الجزء الثالث: وهو” عن العقل السياسي العربي” وهو يتكلم عن نظم وأسس التفكير السياسي العربي عبر تاريخه، وقد أرجع كل الأسس إلى ثلاثة أسس في البداية: القبيلة والغنيمة والعقيدة، فالقبيلة هي أساس كل تفكير سياسي قبل الإسلام وعصر الخلفاء الراشدين والدولة الأموية، تأتي بعد ذلك الغنيمة وهي الأموال التي يحصل عليها الفاتحون العرب من الجهاد في سبيل الله وهذا الأساس لعب دوراً كبيراً في عصر الخلفاء الراشدين وبداية الدولة الأموية، لأن العرب لم يكن لهم مصدر مالي غير الغنيمة من الفتوحات. والمعنى المعاصر لهذا الأساس هو المال.

يأتي بعد ذلك الأساس الثالث هو العقيدة والمعني به هنا هو العقيدة الإسلامية والإسلام نفسه، وهو أساس متين في الفكر السياسي عبر العصور الإسلامية. كل هذه الأسس كانت واضحة وبدرجة كبيرة قبل سيطرة دولة بني أمية على دولة الإسلام أما بعدها فظهرت أسس جديدة في الفكر السياسي العربي وهي ميثولوجيا الإمامة والأخلاق السلطانية.

* الجزء الأخير: “العقل الأخلاقي العربي” وهو دراسة فريدة من نوعها حول تاريخ الأخلاق وبنيتها وأسسها في الفكر العربي. يقسم الدكتور الجابري أسس وبنى الأخلاق في الثقافة العربية إلى خمسة أقسام: الموروث الفارسي المتمثل في أخلاق الطاعة والخنوع، الموروث اليوناني المتمثل في أخلاق السعادة، الموروث الصوفي المتمثل في أخلاق الفناء وفناء الأخلاق، الموروث العربي الخالص المتمثل في أخلاق المروءة، وأخيراً الموروث الإسلامي المتمثل في المصلحة.

يخطئ من يظن أن المعارف الواردة في الموسوعة قديمة تراثية مكررة، لأن الجابري لم يقدم التراث كأفكار للاجترار بل يقدمها في سبيل الوصول إلى المكونات الإيديولوجية والمعرفية للعقل العربي ويبرزها في تداخلاتها وتناقضاتها وصراعها، وحصر النظم المعرفية التي أسست الثقافة العربية الاسلامية، والتي كونت العقل العربي وشارك هو في تكوينها.

لقد حلل الجابري هذا العقل بنقد متطور فريد، فحص مكوناته وطرق عمله وعوائق تقدمه الداخلية التي لازالت تكبله وتصده عن التمرد على كيفية تكوينه. ومن أجل ذلك نجد أن مشروع الجابري يفرض نفسه كأول مشروع للنهضة العربية الاسلامية. قد يبدو الكتاب في مستواه الفكري والمعرفي موجهاً للخاصة، لكن مناهجه تجعله بعيداً عن الارستقراطية الفكرية. إنه الكتاب الذي ينبغي بل يجب أن يتوفر في مكتباتنا وجامعاتنا، لأنه فصل المحتوى المعرفي عن المضمون الايديولوجي، فبعث الحياة في الفلسفة فلم تعد مجرد نقل عن الأجنبي، فمع الجابري أصبح لها كيان مستقل ومختلف.

أثار الجابري ومن اليوم الأول لصدور الجزء الأول من موسوعته ردود الفعل الناقدة الفاعلة أو المنفعلة، والإيجابية أو السلبية، وهذه علامة بقايا صحة في الفكر العربي المعاصر. ونذكر منها علي سبيل المثال فقط، ما كتبه “جورج طرابيشي” من نقد شديد بل هجوم عنيف، أحيانًاً، في أربعة مجلدات، تحت عنوان “نقد نقد العقل العربي” وهي نظرية العقل وإشكاليات العقل العربي، ووحدة العقل العربي، والعقل المستقيل في الإسلام، كل ذلك فضلاً عن كتابه الخامس عن مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام. وقد تعتبر هذه المجموعة أوسع وأشمل نقد وتحليل لفكر الجابري. إضافةً للعشرات من الدراسات والتحليلات بعضها لم يكتب بعد.

التعليقات مغلقة.