الانتفاضة
يشكّل العرض المغربي الأول لفيلم ميرا ضمن فعاليات الدورة الثانية و العشرين من المهرجان الدولي للفيلم بمراكش لحظة فارقة في عودة نور الدين الخماري إلى الساحة السينمائية بعد غياب إستمر سنوات.
كانت القاعة تفيض بتفاعل الجمهور، و كأنّهم يستقبلون فصلاً جديداً في مسار مخرج ارتبط اسمه بأعمال طبعت الذاكرة الجماعية مثل كازا نيغرا وزيرو.
و منذ الدقائق الأولى بدا واضحاً أن الخماري قادم برؤية مختلفة أكثر نضجاً و هدوءاً، تجمع بين جمالية الصورة و عمق الموضوع الإنساني.
إختار المخرج أن يكتب سيناريو الفيلم بنفسه وأن يصوره كاملاً في قلب غابات الأطلس، بين أزرو و إفران، حيث الطبيعة لا تُستعمل كخلفية فحسب بل تتحول إلى جزء من نَفَس الحكاية.
هذا الإنعطاف نحو فضاء طبيعي مفتوح يشكل قطيعة جمالية مع مدينة الدار البيضاء التي لطالما كانت علامة في أفلامه السابقة، لكنه في الوقت ذاته يفتح أفقاً بصرياً أرحب يسمح للدراما الإنسانية بأن تنمو وسط الضوء و الثلج و الخضرة.
الطبيعة هنا ليست ديكوراً، بل كائن حيّ يتنفس مع الشخصيات و يحتضن آلامها.
يستند الفيلم إلى أداء جماعي قوي يجمع فاطمة عاطف، عمر لطفي، صفاء ختامي، سعد موفق، إسماعيل الفلاحي، زينب علجي و موسى سيلا، و هو فريق يمنحه الخماري حرية التعبير داخل إطار إخراجي دقيق.
و يتضاعف معنى العمل من خلال رمزية العنوان، إذ تعني “ميرا” بالأمازيغية “القائدة”، و هو إختيار ينسجم مع قصة طفلة صغيرة تنسج علاقة إنسانية فريدة مع مجموعة من المهاجرين الأفارقة المختبئين في غابات الأطلس بحثاً عن فرصة عبور نحو الضفة الأخرى. تنكشف من خلال هذه العلاقة توترات إجتماعية و ثقافية عميقة، تُظهر الوجه الصارم للأحكام المسبقة و العنصرية في مجتمع ينوء بالفقر و الهشاشة و الظلم.
و مع أنّ الفيلم يحتفظ ببصمة الخماري من حيث قوة الإيقاع البصري و توتر الأحاسيس، فإنه ينفتح في الوقت نفسه على شاعرية جديدة تقوم على توظيف الطبيعة و اللغة الأمازيغية و المقاطع الغنائية التي تُضفي على الشريط لمسة من الصفاء الإنساني.
يعتمد السرد على نظرة طفلة تقف عند عتبة العالم، ترى القسوة لكن تستبقي أملاً صغيراً في الحرية، و كأن كاميرا الخماري إختارت هذه المرة أن تنظر إلى العالم بعيون أكثر براءة و أقل صخباً.
عودة الخماري من خلال ميرا تأتي بعد آخر أعماله الطويلة بورن آوت سنة 2017، و بين الفيلمين مسافة زمنية و فكرية تسمح بقياس عمق التحول في رؤيته.
و قد عبّر المخرج عن هذا الشعور بعد العرض حين قال إن تقديم الفيلم لأول مرة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط داخل بلده يجعل الإحساس ثقيلاً و مختلفاً، لأن الأمر بالنسبة إليه ليس مجرد عرض رسمي بل مكاشفة مع جمهوره الحقيقي.
و أكّد أن تجربة العمل مع الممثلين الشباب كانت ممتعة، لأن الذكاء الفني – في رأيه – هو ما يصنع الفرق ويمنح العمل تلك الروح التي تُحس و لا تُرى.
من جهتها تحدثت الممثلة صفاء ختامي عن تجربتها بإعتزاز كبير، معتبرة أن الفيلم يطرح سؤال الحرية على مستويات متعددة : حرية المهاجر، حرية المرأة، و حرية الطفل.
أما سعد موفق فقد رأى في المشاركة مع الخماري فرصة ثمينة، مؤكداً أن فريق العمل بذل جهداً كبيراً لتقديم فيلم يليق بتطلعات الجمهور، و أن مشاهدة العمل جماعياً لأول مرة شكّلت لحظة مفعمة بالإنفعال، خاصة بعد ملاحظة تجاوب القاعة معه.
بهذا الحضور المكثف، يبدو ميرا أكثر من مجرد عودة لمخرج بارز؛ إنه خطوة نحو سينما مغربية ترى الإنسان قبل الحدث، و تمنح الهامش صوتاً، و الطبيعة روحاً، و الطفولة حق النظر من جديد إلى معنى الحرية.