الانتفاضة/ جميلة ناصف
تتجدد اللحظات الوطنية الكبرى في تاريخ المغرب لتصبح معالم مضيئة في الذاكرة. ومن هذه اللحظات التي لا تُنسى، المسيرة الخضراء في نونبر 1975، حين دعا الملك الراحل الحسن الثاني الشعب المغربي للمشاركة في زحف سلمي نحو الصحراء، حاملين القرآن والعلم الوطني، ليكتبوا فصلا جديدا في تاريخ السيادة المغربية. كانت المسيرة أكثر من حدث رمزي؛ فقد مثلت قرارا استراتيجيا يربط بين القوة الرمزية للشعب، والحنكة الدبلوماسية للقيادة، والضغط السياسي على القوى الاستعمارية، وهو ما أفضى لاحقا إلى اتفاق مدريد الثلاثي وإعادة رسم المعالم السياسية للأقاليم الجنوبية.
العبقرية الملكية في تلك المرحلة لم تكن مجرد خطاب تعبوي، بل قدرة على الجمع بين الرمزية الوطنية والتخطيط الاستراتيجي والمناورة الدبلوماسية الدولية. إذ أرسى الحسن الثاني مبدأ أساسيا مفاده أن القوة السياسية الحقيقية لا تبنى على العنف أو الإجبار، بل على تعبئة جماعية متماسكة، ووحدة المصير بين الشعب والقيادة. وقد كانت المشاركة الشعبية في المسيرة تعبيرا صادقا عن الالتزام الوطني والإيمان بعدالة القضية، وتجسيدا للعلاقة الفريدة بين العرش والشعب، التي ما زالت تتجدد مع جلالة الملك محمد السادس نصره الله.
مع تولي الملك محمد السادس العرش، شهدت قضية الصحراء المغربية تحولا نوعيا من مجرد ملف سياسي إلى مشروع تنموي متكامل. فقد ركز جلالته على البنية التحتية الكبرى، والمشاريع الاقتصادية والاجتماعية، لتصبح الأقاليم الجنوبية نموذجا في التنمية المندمجة. من الطريق السريع تيزنيت–الداخلة، إلى الموانئ والمطارات، مرورا بالطاقة الشمسية والمشاريع الجامعية، أثبتت المملكة بذلك أن الدفاع عن السيادة لا يقتصر على السياسة أو الدبلوماسية، بل يشمل النهضة الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين. وقد عبر جلالة الملك في أكثر من خطاب عن هذا التحول، مؤكدا أن المغرب لا يتفاوض على صحرائه، بل يعمل على تثبيت الحلول الواقعية والعملية، ورفع مستوى التنمية لخلق مغرب موحد ومستقر.
في السنوات الأخيرة، جاء الاعتراف الدولي بمقترح الحكم الذاتي المغربي ليؤكد جدية الرؤية الملكية. فالقرار الأمريكي سنة 2020 بالاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء، والاعتراف الأوروبي المتزايد، وأخيرا قرار مجلس الأمن رقم 2797 بتاريخ 31 أكتوبر 2025، يمثل تتويجا لمسار دبلوماسي طويل بدأ بالمسيرة الخضراء واستمر عبر عقود من العمل الدبلوماسي الممنهج. وقد أكد القرار الأممي أن الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هو الحل الأكثر واقعية وقابلية للتطبيق، وهو ما يشكل اعترافا ضمنيا بالشرعية المغربية على الصحراء ويضع حدا لمحاولات التشويش التي مارستها بعض الأطراف طوال العقود الماضية.
القرار الأممي لم يكن حدثا عابرا، بل نتيجة تراكم جهود سياسية ودبلوماسية وتنموية. ففي الخطابات الملكية، أكد جلالة الملك محمد السادس أن المغرب ينتقل من مرحلة الدفاع السياسي إلى مرحلة البناء والاستقرار، وأن الحلول الواقعية تعتمد على التنمية المحلية، الاستثمار في الإنسان، وتعزيز البنية المؤسسية للأقاليم الجنوبية. كما شدد جلالته على أن المغرب يعمل وفق منطق العقلانية والدبلوماسية الهادئة، بعيدا عن أي تصعيد، ليصبح نموذجا في كيفية معالجة النزاعات الإقليمية بطريقة سلمية.
إضافة إلى ذلك، اختار الملك محمد السادس أن تكون هذه اللحظة مناسبة رمزية للاحتفال بإنجاز تاريخي، فأعلن عن “عيد الوحدة” يوم 31 أكتوبر، ليصبح رمزا لاستمرارية المسيرة الوطنية من المسيرة الخضراء إلى مرحلة التتويج الدولي. هذا العيد لا يمثل مجرد احتفال رسمي، بل إعلان انتصار شامل للوحدة الوطنية والدبلوماسية المغربية، وللتأكيد على أن الإنجاز تحقق بالثبات والعمل الدؤوب، وليس بالصخب أو التظاهر.
احتفالات المغاربة بهذه المناسبة امتدت في كل ربوع المملكة، من طنجة إلى الكويرة، حيث احتشد المواطنون في الساحات، مرددين شعارات الفخر الوطني ورافعين علم المغرب، في مشهد يجسد العلاقة المتينة بين العرش والشعب. وأضفت الحملات الرقمية الوطنية تحت وسم #الصحراء_في_مغربها بعدا جديدا لتلاحم المجتمع مع الانتصار الوطني، وهو ما يعكس مدى ارتباط الهوية المغربية بقضية الصحراء وعمق الوعي الوطني لدى الأجيال الجديدة.
لا يمكن الحديث عن هذا الإنجاز دون الإشارة إلى الدور التاريخي للخطابات الملكية التي جسدت رؤية المملكة. ففي خطاب 31 أكتوبر 2025، قال جلالته:
“هناك ما قبل هذا القرار وما بعده. لقد حان وقت المغرب الموحد من طنجة إلى الكويرة، ولن يتطاول أحد على حدوده التاريخية بعد اليوم.”
كما عبر جلالته عن الامتنان للدعم الدولي، مشيرا إلى الشكر للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وللدول الصديقة التي ساهمت في تعزيز موقف المغرب، مؤكدا أن هذا النجاح ثمرة تضافر الرؤية الملكية مع الإرادة الشعبية.
هذا الإنجاز التاريخي يفتح الباب لمزيد من المبادرات التنموية والاستثمارات في الأقاليم الجنوبية، ويؤكد أن المغرب قادر على تحويل النزاعات المفتعلة إلى مشاريع بناء وتنمية، إنه درس في التاريخ والسياسة.
وقبل ختام هذا المقال، لا بد من توجيه تحية وفاء لكل من ساهم في هذا المسار: إلى جيل المسيرة الخضراء الذي سار حاملا القرآن والعلم، إلى جنود الوطن الذين حافظوا على الأمن والاستقرار، إلى جلالة الملك محمد السادس نصره الله الذي قاد مرحلة التتويج والبناء، وأخيرا إلى الشعب المغربي الذي أثبت أن الوطنية ليست شعارات عابرة، بل التزام يومي بالوفاء للوطن والسيادة والهوية.
المغرب اليوم يقف فخورا بإنجازاته، ليس فقط على صعيد الاعتراف الدولي بالسيادة، بل على صعيد إعادة بناء معنى الوطن من طنجة إلى الكويرة، حيث تتجسد الوحدة الوطنية في المشاريع التنموية، وفي الجهود الدبلوماسية، وفي شعور الشعب بالانتماء القوي والتلاحم مع القيادة. إن لحظة 31 أكتوبر 2025 ستظل محفورة في ذاكرة المغاربة، كتأكيد على أن الصحراء في مغربها، والمغرب في صحرائه، وأن المستقبل يكتب بالصبر والحكمة والعمل المشترك بين العرش والشعب.