الانتفاضة // أبو علي بلمزيان
أن تضع قدميك في حقل الصحافة، فذلك يقتضي منك شرفاً لا يعلوه إلا شرف الالتزام بالحقيقة، وجرأة لا تسكنها حسابات المساومة، وقلمًا لا ينحني إلا لآلام الناس.
أما أن تتحول إلى بوق، إلى لسان مستأجر، إلى حامل مباخر يتقيأ الكذب كأنفاس يومية، فذلك انحطاط لا يليق حتى بأعتى جلاوزة الدعاية السياسية في الأنظمة الفاشية.
هناك فرق شاسع بين من يكتب ليحرر العقل وبين من يكتب ليسجن الوعي، بين من يخاطر بسلامته من أجل قول كلمة صادقة، وبين من يبتز الناس في وضح النهار بعبارات لا يسندها إلا الغرض الشخصي والتقرب من السلطة.
ما يمكن أن نسجله بأسى هو كيف أمكن للصحافة في هذا البلد أن تصبح دكاناً يبيع الوهم، ويشتري الصمت، ويقايض المواقف في سوق لا تنعقد فيها سوى صفقات الخيانة.
أن يطل علينا من تسربل ببدلة الصحفي، متوهماً أن مجرد الجلوس أمام الكاميرا أو التلويح بقلم على الورق يمنحه شرعية الحديث باسم الحقيقة، فذلك يدلّ على حالة بؤس أخلاقي، لا يمكن تبريرها لا بالجهل ولا بالتكوين الناقص، بل هي علامة سقوط مدوّ، لا يوازيه إلا عري الذات من كل حس إنساني أو التزام سياسي أو مهني.
ذاك الذي يملأ الصفحات والخطابات بلغة الوصاية على الوطن، لا يتردد في تدبيج مقالاته بعبارات التضليل والتدليس، نافخًا في رماد الوطنية ليخفي بها جراح الفساد، ناسبًا إلى نفسه قدرات في التحليل والتأويل لا يملك منها سوى قشرة ممجوجة من الخبث والتذاكي الرخيص.
فكم من مقال كتبه لا يرقى حتى إلى مستوى تدوينة فيسبوكية لرجل عادي من الشعب؟ وكم من تعليق أدلى به لا يعبر إلا عن خنوع مفضوح، وتحامل فجّ على من يحمل همّ الجماهير؟
إن المأساة ليست في الجهل، بل في ادعاء الفهم؛ وليست في الضعف، بل في التواطؤ مع القوة الغاشمة؛ وليست في الانتماء، بل في الارتزاق باسم الانتماء.
نحن أمام كائن لا وظيفة له سوى تشويه الفعل النضالي، وتلميع وجه السلطة، ومهاجمة كل من لا يصطفّ تحت مظلة الإذعان. يكتب بقاموس منفر، صيغته الوحيدة هي السباب الموارب، واتهامات بلا أدلة، وتحليلات أشبه بخربشات طفل مصاب بالهذيان. لا يُعرف إن كان يكتب تحت تأثير الحقد، أم تحت إكراهات الدفع المسبق، أم بدافع غريزي نحو خدمة الأقوى.
وحين نضع خطاباته ومقالاته تحت مجهر التحليل المعرفي والفكري، فإن أول ما يطفو على السطح هو خواء مدوّ، فراغ صفيق يفضح هشاشة تكوينه وضحالة خلفيته الثقافية، إذ لا قدرة لديه على بناء حجاج متماسك، ولا على إدارة سجال فكري جاد، وأبسط دليل على ذلك فراره المفضوح من مناظرة علنية مع الأستاذ عزيز غالي حول قضايا الشرق الأوسط، وهو من كان يطنب في الحديث عنها بمنطق الغرور الخطابي والجهل الوقح.
رفضه لذلك التناظر لم يكن موقفا مبدئيا، بل فضيحة صامتة تعريه على حقيقته: مجرد كائن كرتوني يختبئ خلف واجهة مهنية زائفة، عاجز عن مواجهة الرأي الآخر، جبان أمام الفكر، وقح أمام الشعب.
حين يعمد إلى تسويق التفاهة كأنها بصيرة، ويصر على تصوير المنتفضين على الوضع القائم كخونة أو “عدميين”، فإنما يكشف عن ضحالة معرفية رهيبة، وعن نزعة انتقامية دفينة من كل ما هو نقي وشريف.
يريد أن يكون الضمير المهني، بينما هو في الحقيقة مجرد صدًى رخيص لأوامر تأتيه من فوق، لا يتقن منها إلا تأنيب الأحرار وتلميع الجلادين.
أما المهنية، فإنها في قاموسه مجرد ديكور؛ يستخدم مفرداتها كما يستخدم اللص قفازاته، ليتفادى أن يترك بصماته في مسرح الجريمة.
يحدثك عن الأخلاق، وهو أوّل من دنّسها بخطاب الكراهية والتحامل؛ يحدثك عن الشرف، وهو الغارق حتى أذنيه في مداهنة النفوذ؛ يحدثك عن المصداقية، وهو منتهك لكل قواعد التحقيق والتوازن والنزاهة.
إن مثله لا ينبغي أن يُصنّف ضمن الصحفيين، بل ضمن أعوان الدعاية، أولئك الذين يرسمون صورة مزيفة للواقع مقابل فتات الموائد.
أي جرأة له أن يتحدث باسم المهنية، وهو الذي لا يُرى إلا حين يُراد تبرير الخيانة، أو شتم المعارضين، أو تسفيه النضال؟ أي لسان له ليتكلم عن الحقيقة، وهو من ذوي الأقلام المكسورة، ممن يتقنون الصمت حين تكون الكلمة موقفًا، ويتقنون النباح حين يكون الصراخ سُلَّمًا لنيل الرضا؟ إن من يستعمل الورق كوسادة للنفاق، لا يحق له أن يدّعي الانتساب لمهنة الصحافة، بل فقط لمهنة المسخ الرمزي لمنطق الصراع الاجتماعي.
ذاك المخلوق الذي يهاجم مناضلي الهامش، ويسخر من مطالب المهمشين، هو في الحقيقة مجرد موظف في مكاتب الدعاية المظلمة.
لا يشكل رأيًا عامًا، بل يخدم رأيًا سلطويًا جاهزًا؛ لا ينتصر للمستضعفين، بل يحتمي بالقوي ولو كان غاشمًا؛ لا يناضل من أجل الحقيقة، بل يناور من أجل الحظوة.
إنّه عار على من علّمه الحروف، وعار على المنابر التي تنشر خزعبلاته، وعار على بلد يُدعى فيه من يشتم الفقراء إلى صالونات التقدير، بينما يُزجّ بالمناضلين في التهميش والتشويه.
لقد صار الصحفي في بعض الأوساط مرادفًا للابتذال والتفاهة والانبطاح، والسبب في ذلك هو هؤلاء المتسربلون بالمهنية الكاذبة، المتشدقون بالحياد الزائف، ممن باعوا كل شيء: العقل، والكرامة، والموقف. إنه لا يمثل الصحافة، بل يمثل خيانتها.
لا يكتب، بل يتقيأ. لا يفكر، بل ينفذ. لا يحاور، بل يشتم. وإن أسوأ ما يمكن أن يُقال فيه، أنه يعرف كل هذا، ويصر عليه، لأنه وجد لنفسه وظيفة واضحة: أن يكون حاجبًا على بوابة السلطة، يمنع دخول الحقيقة، ويسمح بمرور الأكاذيب.
إن من لا يرى العالم إلا من نافذة سيّده، ومن لا يكتب إلا ما يمليه عليه المموِّل، ومن لا يفكر إلا في كيفية تشويه المناضلين، لا يمكن وصفه إلا باعتباره أحد أدوات القمع الرمزي.
وإن من واجب كل مثقف شريف، وكل صحفي ملتزم، أن يعرّيه كما هو: دمية في يد السلطة، لا أكثر. وقد عرّيناه.
التعليقات مغلقة.