المهداوي من الزنزانة إلى الميكروفون

الانتفاضة // الكاتب // توفيق بوعشرين

“حيث يوجد الخطاب، توجد السلطة.”
ميشيل فوكو

دعاوى وزير العدل عبد اللطيف وهبي الخمسة ضد الزميل حميد المهداوي، ونزع بطاقته من قبل المجلس الوطني للصحافة بقيادة اليساري المتقاعد يونس مجاهد ( الذي يجاهد فيما بقي من روح الصحافة المستقلة)، وتجنيد كتائب التشهير ضد كل صاحب رأي مختلف، وتمويل آلة الدعاية السوداء التي تتغذى على لحم البشر كل يوم…

كلها واجهات متعددة لشيء واحد لا يظهر بالعين المجردة: إنه خوف السلطة من فقدان التحكم في اتجاهات الرأي العام.

فالتلفزة، والإذاعة، والجريدة، والوكالة، كانت دائمًا في المغرب أدوات لممارسة السلطة على العقول.
والآن، هذه السلطة تضعف يومًا بعد آخر، لأن الثورة الرقمية وصحافة المواطن، بما لها وما عليها، كسرت احتكار الدولة للصورة والصوت والخبر والتعليق وأجندة السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة…

وسائل القوة الناعمة تتسرّب من يد السلطة، ولهذا تستعمل وسائل القوة الخشنة: المحاكم، القانون الجنائي، الزنازن الرطبة، وحفلات الشتم والسبّ والقذف…

في بداية القرن، كانت هناك جريدة في طنجة اسمها “لسان المغرب”، تأسست عام 1907 على يد الأخوين اللبنانيين فرج الله نمّور وأرتور نمّور.
كانت هذه الجريدة تعبّر عن مواقف سياسية حادّة، مما جعلها مصدر إزعاج للسلطان المغربي آنذاك مولاي حفيظ.

وصل الأخوان نمّور إلى طنجة في يناير 1906، بدعم من القنصلية الألمانية، التي كانت تسعى لتأسيس صحيفة عربية تعبّر عن مصالحها في المغرب.
تم تجهيز المطبعة بمعدات من المطبعة الكاثوليكية في بيروت، وصدرت أول نسخة من الجريدة في 8 فبراير 1907.

في خضم الصراع على العرش بين السلطان عبد العزيز وأخيه عبد الحفيظ، لعبت “لسان المغرب” دورًا إعلاميًا بارزًا ضد مولاي حفيظ، فضاق ذرعًا بها، وأمر ممثله في طنجة بإقفالها وتخريب مطبعتها…

وصل الخبر إلى القنصل الألماني!!
فنصح السلطان نصيحة ذكية وناعمة، فقال له:
“عوض أن تقفل الجريدة وتكسر مطبعتها، اشترِها، وحوّل خط تحريرها لصالحك…”

انظروا الفرق بين عقلية ديبلوماسي ألماني محترف في بداية القرن العشرين، وعقلية سلطان مغربي يعيش في مملكته الشريفة، المنكفئة على نفسها، والمحاطة بنخب متخلفة عن عصرها…

وهكذا فعل مولاي حفيظ: أقلع عن خطة إغلاق الجريدة وتكسير مطبعتها، وبعث المال لخليفته في طنجة لشراء الجريدة.

وفي 14 فبراير 1908، أعلنت الجريدة بكل شفافية عن بيعها للمخزن (الحكومة المغربية) بقيادة السلطان عبد الحفيظ، وأن الأخوين نمّور سيعملان لصالح السلطان بدون مواربة ولا اختباء خلف شعارات او واجهات او عناوين .

هذا التحوّل جاء بناءً على نصيحة من القنصل الألماني، الذي رأى أن شراء الجريدة واستخدامها كمنبر، أفضل من إغلاقها.

هل نحن الآن، وبعد مرور 120 سنة عن هذه الواقعة، في خطاطة مولاي حفيظ الأولى، أم في خطاطة القنصل الألماني؟
لكم الجواب…

أما أنا، فلن أجد أفضل من مقولة الصحافية الأمريكية آمي غودمان، الفائزة بجائزة نوبل البديلة، وهي تصف مهنة البحث عن المتاعب، كما لا يعرفها لا وزير الاتصال، ولا رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ولا النقابة الوطنية للصحافة، ولا جمعيات المسخ الإعلامي:

تقول غودمان: الذهاب إلى حيث يسود الصمت، تلك هي مسؤولية الصحفي: أن يمنح صوتًا لمن طواهم النسيان، وتركوا لمواجهة مصيرهم، وتعرضوا للاضطهاد من قبل الأقوياء.

التعليقات مغلقة.