الانتفاضة الصويرة
– تواصل السلطات المحلية في عدد من المدن والقرى المغربية تنفيذ حملات واسعة لتحرير الملك العام من مظاهر الاستغلال غير المشروع، استجابةً ملحّة لتنامي خروقات عمرانية تجاوزت حدود المقبول، ومَسّت جوهر العيش المشترك ومبدأ المساواة في الانتفاع من الفضاءات العامة. ففي العديد من المناطق، تحوّلت طرق عمومية إلى ملكيات شبه خاصة، أُحيطت بأسوار أو استُغلت كامتداد لمحلات تجارية، في حين شُيّدت بنايات عشوائية فوق أخرى دون مراعاة لمعايير السلامة أو احترام التصاميم الأصلية. ممارسات تعكس انفلاتًا عمرانيًا مقلقًا، وتشكل انتهاكًا صريحًا للقوانين المنظمة للملك العمومي. ورغم مشروعية هذه الحملات، إلا أنها لا تخلو من إشكالات، إذ تصطدم السلطات أحيانًا بمقاومة شديدة من السكان المتضررين، الذين يعتبرون ما شيّدوه أو استغلوه “حقًا مكتسبًا”، مستندين إلى سنوات من الغفلة أو التساهل من طرف الجهات المعنية، ما يُحوّل عمليات الهدم أو الإخلاء إلى صدمات اجتماعية تهدد الاستقرار وتغذي مشاعر الغبن واليأس. وتزداد تعقيدات الوضع حين تغيب المقاربة التشاركية، أو تُهمل بعض الإجراءات القانونية، كما حدث مؤخرًا في دوار العرب بمدينة الصويرة، حيث تم تنفيذ عمليات هدم في غياب بعض أصحاب المنازل، ودون إشعار مسبق، أو الاطلاع على الوثائق والرخص المتوفرة، ما خلّف أضرارًا مادية ونفسية، وطرح تساؤلات حقيقية حول احترام المساطر القانونية، ومراعاة الكرامة الإنسانية في تنفيذ القرارات الإدارية. في المقابل، تُسجَّل إشادات من طرف مواطنين بنماذج راقية في التدخل، يظهر فيها باشا المدينة وعيًا كبيرًا بمسؤولياته ، وحرصًا على اعتماد الحوار بدل الصدام، والتدرج بدل المباغتة، ما يُخفف منسوب التوتر، ويُيسّر تفهم القرارات، خاصةً حين يُستحضر البُعد الإنساني، ويتم الإنصات لحاجيات المواطنين ومراعاة أوضاعهم الاجتماعية، وتُفعَّل مقتضيات القانون بعيدًا عن الشطط أو السقوط في مَطَبّات تضعف هيبة السلطة وتُقوّض الاحترام المتبادل المفروض . غير أن المعضلة الحقيقية لا تكمن فقط في مقاومة السكان، بل في عمق الخلل المؤسساتي، إذ تكشف بعض الخروقات العمرانية عن شبهات تواطؤ بين أطراف داخل أجهزة المراقبة الإدارية ووسطاء محليين، ما يُثير الشكوك حول عدالة المعايير المعتمدة في المراقبة والتدخل.
فكيف تُبنى منشآت مخالفة دون علم السلطات، أو بتواطؤٍ صامت، ثم تُفاجَأ لاحقًا بجرافات الهدم دون محاسبة حقيقية للمسؤولين عن تمرير هذه التجاوزات؟ وكيف يمكن للمواطن أن يثق في القانون، إذا ما شعر بأنه الضحية الوحيدة في معادلة تتغاضى عن “الرؤوس الكبيرة” وتُلقي بالتبعات على الطرف الأضعف فقط؟. إن تحرير الملك العام ضرورة حتمية، لكنه لا يكتسب المشروعية الكاملة إلا من خلال مقاربة متوازنة، تُزاوج بين الحزم والعدالة، بين فرض القانون ومراعاة كرامة الإنسان. ولا يمكن لهذا المسار أن ينجح إلا إذا ترافق مع إصلاح داخلي شجاع، يُحاسب كل من فرّط أو استغل منصبه، ويكرّس الثقة في مؤسسات الدولة باعتبارها حامية للمصلحة العامة لا أداة للانتقاء أو العقاب.
نحن أمام لحظة فارقة، تتطلب رؤية شمولية تؤمن بأن القانون يُطبَّق على الجميع دون استثناء، وبأن تحرير الملك العام ليس مجرد إجراء تقني، بل ورش مجتمعي يتطلب التخطيط، والإنصات، وبناء الثقة من جديد. [محمد السعيد مازغ ]
التعليقات مغلقة.