رسالة من شمال غزة

الانتفاضة // الدكتور // محمد الطاهري

لازالت القضية الفلسطينية تعيش الامرين نتيجة العدواان الاسرائيلي المتواصل، ولا زال العالم يتفرج على بشاعة المجازر التي يرتكبها المحتل الصهيوني في حق الاطفال والشيوخ والنساء والمدنيين للاشف الشديد.

وفي هذا السياق توصلت جريدة الانتفاضة برسالة من الدكتور والاستاذ محمد الطاهري يطرز فيها مجمل ما يحصل في فلسطين من اجرام وعدوان هذا نصها:

عزيزتي..ها أنذا أكتب لك مجددا رغم تعبي ..اليوم هو السابع بعد الثلاثين الذي لا أجد في شيئا آكله سوى ما بقي من فلفل أحافظ عليه كما أحافظ على أنفاسي..أكتب لك بعد أن إستطعت بالأمس شحن هاتفي بصعوبة، نظرا لكثرة عدد من ينتظرون دورهم لشحن هواتفهم عند العم إدريس..أكتب إليك وأنا بجوار الشرفة التي كنت ألاعب فيها ابننا سمير، لقد تغير منظر الشارع أمامها يا حبيبتي، فجرافات الأنجاس جرفته، وعدد كبير من بيوت جيراننا صارت في خبر كان، وأحمد الله أني كنت في غرفة الضيوف حين تهدم جزء بيتنا الملاصق لجيراننا الذين استشهدوا جميعا رحمهم الله.. أجلس على الكرسي الخشبي القديم وبجواري قطتنا نونو وقد غادرها دفؤها بسبب ما شاهدته هي أيضا..لقد كانت المسكينة لا تفارقني، ومن حسن الحظ أننا ادخرنا لها الاكل الخاص بها، وإلا كانت ماتت من الجوع منذ زمن، استيقظت اليوم باكرا كما العادة على صوت الانفجارات القريبة..عفوا أنا ما نمت أصلا حتى أستيقظ، فقد حرمني الأرق من النوم طوال الليل، وكيف لي أن انام وأنا افكر فيك باستمرار! وفي ابني سمير.. أرجو أنكم وصلتم إلى الجنوب بخير وعلى خير…لا أخفيك يا حبيبتي..في ذلك اليوم، بعد عودتي من المخيم كنت حائرا فيما علي فعله..كنت حينها أفكر أني على الأقل وأنا هنا أستطيع أن أساعد من تهدمت بيوتهم وأسعف الجرحى وأواري مع الباقين جثامين الشهداء، وأفعل غير ذلك..أما الآن فأنا أكتب لك بعقلي النائم ولا أستطيع حتى أن أفكر بشيء أفعله، فما عاد هناك إلا الانتظار والترقب، ولا أحد يستطيع ان يخرج من بيته، بله أن يأتي إلى الجنوب، وأجدني طوال اليوم أمام صوت الصادر بصعوبة من المذياع الذي تركه لنا أخي الشهيد أحمد رحمه الله أتجول بين موجاته محاولا تتبع الأحداث المتسارعة..نسيت أن أخبرك أني أيضا والحمد لله ختمت كتاب الله قراءة للمرة الثالثة بعد العشرين منذ ذهبتم..كما أني قراءت ما في الخزانة من كتب، وقد أعجبني فيها رسائل كافكا لحبيبته ميلينا حتى إني قرأتها وأنا أبكي، فقد وجدت الرجل المسكين في لحظة كما لو أنه يعبر عن بعض ما أشعر به تجاهك أنت وابني الحبيب سمير، حقا لقد اشتقت لكما كثيرا يا حبيبتي.

عزيزتي..لا اعلم لما كنت طوال الليل خائفا! لا أخفيك، كنت أنظر إلى ظلام الغرفة وأتخيل نفسي وحيدا في مكان ما لا أعرفه، رغم انه بيتنا الجميل، كنت أتوقع في كل لحظة من لحظاته خطرا قادما! إنه الليل القاسي هنا في الشمال، نعم أصبحت أدرك ذلك، لكن هذه المرة بدت لي ساعاته ودقائقه طويلة على غير العادة، بل بدت لي وكانها لا تنتهي، وما إن أشرقت شمس الصباح حتى بثت الطائرات المحلقة في السماء والدبابات المحيطة بالجوار الرعب في نفسي مرة أخرى.
أستغرب لما يزيدني الليل هما إلى جانب هم نهاري المخيف..ليفعل بي الزمن ما شاء، فأنا على يقين أن الطريق أمامي لازال مفتوحا، واعلم أن بيدي مسافة صفر تقاس بالعرض لا بالطول وان بإمكاني أن أقطع فيها نفس جندي من جنود العدو النجس الجبان، أو أمشي فيها سيرا على قدماي إلى الجنان! عزيزتي..اعتقد أني متعب لدرجة تستوجب أن اترك هاتفي الآن..سأكتب لك مرة أخرى عندما أتحسن قليلا..لا تنسيني من الدعاء، وقبلي نيابة عني سمير، وأدع الله أن تكونا بخير..إذا وصلتك رسالتي هذه فأرجو أن تجيبيني وتطمئنيني عنك.

التعليقات مغلقة.