حفلة التفاهة في زمن الرداءة: حين تصير النكتة مقبرة للوعي

الانتفاضة // أبو علي بلمزيان

ما نعيشه اليوم لم يعد مجرد انحدار في الذوق العام أو انحراف في استعمال السخرية، بل أصبح شكلاً من أشكال الانحطاط السياسي والثقافي المعمّم، تُوظَّف فيه السخرية كتقنية لإخفاء الجهل، وكآلية للتهرب من مساءلة الواقع، وكوسيلة لتعويم القضايا السياسية الجادة في بحر من الهراء اللفظي والعبث التخييلي. وما صدر في هذا النص الذي يُفترض أن يكون “نكتة سياسية” عن ترامب والمهداوي وعزيز غالي، لا علاقة له لا بالسخرية السياسية الحقيقية، ولا بالنقد، ولا حتى بالخفة التي يُعذر فيها الجهل أحياناً، بل هو امتداد فجّ لخطاب التفاهة الذي يرقص فوق جماجم المعنى.

لنبدأ من حيث يجب أن يبدأ أي عقل يحترم نفسه: إن تمرير أسماء حقيقية وفاعلين مدنيين، ضمن فانتازيا ركيكة من قبيل “الطائرة الشبح”، و”القمبولة النووية”، و”الوسيط الإيراني”، ليس سوى محاولة يائسة لإثارة الضحك المصطنع على حساب عقول القراء. هذا النوع من الهراء لا يصدر عن وعي، بل عن فقر مدقع في الرؤية السياسية، وعن غياب صارخ لأي حس نقدي، وهو في النهاية لا يخدم سوى أجندة تطبيع الرداءة وتكميم أي صوت نقدي حقيقي عبر تحويله إلى مادة للتندر الرخيص. وما يُروَّج له هنا ليس سوى قناع للهروب من مواجهة الأسئلة الصعبة: من يحكم؟ من ينهب؟ من يخون؟ من يسكت؟ ومن يتواطأ بالصمت أو بالتهريج؟

حين يُحوَّل العمل السياسي والنضال الحقوقي إلى فقرات في سيرك إلكتروني، تفقد القضايا معناها، ويصبح الوعي الشعبي مجرد صدى لصوت المهرج، لا صوت المحتجّ. هذه ليست سخرية بريئة، بل هي شكل من أشكال العنف الرمزي الموجّه ضد كل من يحاول أن يقول “لا”، ضد كل من يكشف عورات السلطة، وضد كل من يُزعج صمت التواطؤ. وعندما يُستعمل التهكم الفارغ بهذه الطريقة، فإن هدفه ليس إضحاك الناس، بل تمرير خطاب تشويه ضمني لكل من يرفع صوته، ولكل من يُزعج بتقارير حقوقية أو مواقف سياسية خارج سرب الخنوع.

وما يُضاف من خلط في العبارات و”المقادير” و”الست وقيات”، لا يُضحك إلا من استقال من مهمة التفكير. فالضحك لا يكون مضادًا للسلطة عندما يُمارَس على حساب ضحاياها، بل يصير شريكًا في الجريمة. ومن يُروّج مجرد هراء، يصرف بوجهٍ ملطّخ بخليط من السخرية البليدة والاستغباء الممنهج.

ولعل الخطير في هذا الخطاب ليس تفاهته فحسب، بل طابعه الشعبوي الذي يختبئ خلف “الخفة” ليضرب رموزًا حاولت، سواء اتفقنا معها أو لا، أن تقول كلمة حق في زمن الركوع. إن عزيز غالي الاطار الحقوقي البارز في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، والمهداوي الصحافي الذي دفع ثمن الكلمة الحرة، ليسا قديسين، لكن تحويل اسميهما إلى أيقونتين للتهكم الرخيص هو خيانة مزدوجة: خيانة لذاكرة نضالية، وخيانة لمعركة الحريات. والمضحك المبكي أن من يتهكم عليهما اليوم، كان بالأمس يصفق لهما في المظاهرات، قبل أن ينتقل إلى مربّع الصمت، ثم مربّع النكتة، وهي أعلى درجات الجبن السياسي.

أما ما يُقال عن إيران وخرق اتفاق وقف إطلاق النار، فليس سوى استعراض لفظي فاشل لادعاء “التحليل الجيوستراتيجي”، بينما الحقيقة أن صاحبه لا يميز بين القنبلة النووية وعلبة سردين. ولعل العبارة الأكثر دلالة على هذا الانحدار هي: “باقي المستجدات في مراسلة قادمة، ما تزابيوش”، التي تختزل كل شيء: خفة، وبلادة، واستغباء مقصود.

هذا النص – وأمثاله – لا يستحق التفكيك باعتباره “خطابًا سياسيًا”، بل كوثيقة مرضية على عصر يحتضر فيه العقل. هو عرض حيّ لكيفية اغتيال الجدية باسم الدعابة، وكيفية تحويل السياسة إلى “بوفوار”، والصحافة إلى كاريكاتور لا يُضحك سوى الطغاة. ولا يجب أن يُرد على هذا النوع من الكتابات بوصفها مواقف، بل باعتبارها أعراضًا: أعراض مجتمع أُغرِق في التسلية، ليُنسى كيف يُفكّر، وأُدمن التهكم كي لا يصرخ في وجه الظلم.

إن هذه السخرية المسمومة لا تكتفي بتشويه الواقع، بل تسعى لإعادة إنتاجه في نسخته الكاريكاتورية، حيث يُضحك على الضحية، ويُحتفى بالجلاد، ويُختزل التعقيد في نكتة، وتُلغى الجريمة باسم الفانتازيا. وهي بهذا ليست سوى خيانة ناعمة، بل وقحة، للوعي الجماعي.

لقد آن الأوان لفضح هذه “النكت السياسية” باعتبارها أدوات تأبيد الرداءة، لا تمزيقها، وباعتبارها سلاحاً بيد السلطة، لا ضدها. ولا نملك أمام هذا المشهد إلا أن نقول: إذا صارت النكتة أداة قمع، فالسخرية تصبح قناعاً لوجه قاتل.

التعليقات مغلقة.