شم النسيم يبعث الحياة في قلوب المصريين من جديد

أزمة اقتصادية طاحنة لا يعبأ بها المصريون بقدر ما يحرصون على الاحتفال بأعيادهم الاجتماعية والدينية، حيث يأملون في أن يزيل عنهم عيد “شم النسيم” (عيد الربيع المصري) هذا العام عواصف متتالية منذ ثورة 25 يناير، زادت وتيرتها بعد الإطاحة بالرئيس محمد مرسي في 3 يوليو الماضي.

عيد الربيع المصري، العيد الذي يحل على المصريين هذا العام، وسط حالة ترقب لما ستشهده البلاد على الصعيد السياسي، لم يكن مختلفا عما سبقه في طرق الاحتفال به، غير أن المتأمل في طوابير المصريين أمام المحال والمصانع لشراء عدة كيلوغرامات من السمك المملح، يدرك مدى رغبتهم في الفرح، حتى قبل استقرار بلادهم، الذي لم يعد مرهونا لديهم بمجيء رئيس جديد.

وقبل نحو يومين، من عيد شم النسيم، توافد المصريون على مختلف المحال لشراء طعامهم المفضل استعدادا للاحتفال به وسط جو عائلي، باحثين عن أجود أنواع الرنجة والفسيخ والملوحة، وهي عبارة عن أسماك مدخنة ومملحة، ولا يفوتهم في ذلك شراء بعض المقبلات كالخس والبصل والليمون، والذهاب بها إلى الحدائق الخضراء والمتنزهات، تاركين صغارهم يلونون “البيض المسلوق” قبل تناوله.

فرغم الحالة الاقتصادية التي يعيشها المصريون، وشكواهم المتزايدة من ضيق ذات اليد، غير أن زحام السيدات اللواتي أخذن زمام المبادرة بالاختيار ما بين هذا النوع وغيره من السمك المدخن والمملح، وسط عشرات الصناديق محكمة الغلق، كان دليلا على أن المصريين يستطيعون أن يخفضوا في الكمية التي يحتاجونها دون أن ينقص ذلك من فرحتهم المنتظرة.

وتتراوح أسعار الأسماك المملحة هذا العام ما بين 65 جنيها مصريا (10 دولارات أميركية) و85 جنيها (11 دولارا) للأربعة كيلو غرامات، وسط شكوى قطاعات عديدة من المصريين من قلة رواتبهم، وعدم حصولهم على الكادر الخاص بهم (حد أدنى للأجر)، ويأتي في مقدمتهم الأطباء والصيادلة وسائقو النقل والمواصلات وعمال البريد.

وحسب تقارير رسمية فإن متوسط الدخل السنوي للأسرة المصرية (المكونة من 5 أفراد كحد أدنى) يبلغ قرابة 30 ألف جنيه أي نحو 4280 دولارا أميركيا.

يقول محسن المعداوي، فسخاني (بائع سمك مملح) وصاحب أكبر مصنع للرنجة بمصر، بإحدى ضواحي الجيزة (غرب العاصمة): “من مظاهر احتفالنا كمصريين بعيد شم النسيم الإقبال على شراء الرنجة والملوحة والفسيخ، والحمد لله الإقبال جيد جدا هذا العام، والأسعار في متناول الجميع، ونظرا إلى الحالة الاقتصادية خفضنا الأسعار حتى يكون السمك المملح متاحا لكافة المصريين”.

يضيف المعداوي الذي تجده مبتهجا بقدوم عيد الربيع: “هذا موسم (حدث سنوي) بالنسبة إلينا، فالجميع يأتي والجميع يريد شراء السمك المملح قبل العيد بثلاثة أو أربعة أيام، ولا يقل الإقبال عن الأعوام السابقة، أما بالنسبة إلى الكميات، فالتجار يشترون كميات كبيرة. أما الأفراد العاديون فهناك من يشتري كيلوغراما وآخر عشرة كيلوغرامات”.

وعن كيفية استعداد المعداوي نفسه، كبائع للسمك، قال إننا “نستورد الرنجة من هولندا ثم نقوم بتمليحها (استخدام الملح كمادة حفظ حتى تتحمل مدة صلاحية أطول) لمدة أربعة أو خمسة أيام ثم نقوم بتدخينها وتعبئتها حتى تكون جاهزة للبيع”.

المصنع الكبير الذي اختار أن يبيع الرنجة وحدها، كان دليلا على إقبال المصريين على هذا النوع من السمك المملح أكثر من الملوحة والفسيخ وهو ما يقول عنه المعداوي “الرنجة من أكثر الأكلات المعروفة لدى المصريين، وعليها إقبال أكثر من أي نوع آخر”.

وعلى بعد أمتار قليلة من أحد شبابيك المصنع، امتدت الطوابير من الرجال والسيدات، كل منهم يختار الكمية التي تكفيه، فتجد من تحمل 3 صناديق (الصندوق فيه كيلو واحد) لأنها ستحضر هذا العيد مع أبيها وأمها وزوجها وأطفالها الثلاثة بينما تجد رجلا ثلاثينيا يفضل شراء صندوق واحد لأسرته الصغيرة.

ويقول صبري محمود الذي يبلغ من العمر 48 عاما: “نحن كمصريين منذ أيام الفراعنة تعودنا على العادات الجميلة، تعودنا في عيد شم النسيم أن نأكل رنجة وملوحة وفسيخ، فلا يوجد بيت يستطيع الاستغناء عن هذه العادات”.

ويتابع محمود: “حتى من تعود على شراء 3 كيلوغرامات تجده هذا العام يشتري كيلوغرامين، لكن لا أحد يستطيع أن يمنعنا من هذه الفرحة، فنحن تعودنا على ذلك وطباعنا تتلخص في البساطة والرضى، والجميع يأكل ويحمد الله بغض النظر عن الكميات”.

لكن انخفاض الكمـــيات التي يتـــناولها المـــواطن المـــــصري، لم يمـــنع وزارة الصحة المــــصرية من فرض حـالة الطـــوارئ والاستـــعدادات لاستـــقبال عيد شـــم النـــسيم.

وحذرت وزارة الصحة المصرية المواطنين من تناول الأسماك المملحة، نظرا إلى ما تمثله من خطر على الصحة التي تصل إلى الشلل التام أو الوفاة.

وقالت في بيان لها، اعتادت إصداره في مثل هذا التوقيت كل عام، إن طريقة تحضير الفسيخ غالبا ما تكون غير آمنة من الناحية الصحية لقلة وجود الملح بالفسيخ، ثم إن بعض الأسماك الطافية على سطح الماء، والتي قد ماتت وتعرضت لأشعة الشمس وبدأت تنتفخ وتتحلل وأصبحت لها رائحة كريهة، يضاف عليها قليل من الملح ويتم بيعها بعد ثلاثة أو أربعة أيام، على حد بيان الوزارة.

وحسب نفس البيان فإن السموم المتواجدة في الفسيخ لا يبطل مفعولها وتأثيرها على الإنسان إلا إذا تعرض الفسيخ لدرجة حرارة 100 درجة مئوية لمدة عشر دقائق مثل القلى في الزيت.

والمتابع لحياة المصريين يجدهم لا يعبؤون للتحذيرات الطبية مثلما لم يعبؤوا للأوضاع الاقتصادية، خاصة هذا العام، الذي يتشوقون فيه إلى أول ربيع (عيد شم النسيم) يزور بلادهم، قد يكون بادرة أمل جديدة على كافة النواحي، خاصة منها السياسية والاقتصادية.

ويعاني الاقتصاد المصري منذ اندلاع ثورة 25 يناير 2011، حيث انخفض سعر العملة المحلية (الجنيه) أمام الدولار الأميركي مع انخفاض الاحتياطي النقدي إثر تراجع الإيرادات، لاسيما في قطاعي السياحة والاستثمار الأجنبي اللذين تراجعا بشدة، وزادت من وتيرة ذلك الأحداث الأخيرة التي شهدتها البلاد عقب الإطاحة بمرسي وما ترتب عليها من أعمال عنف في معظم أرجاء البلاد.

وعيد شم النسيم أحد أعياد مصر الفرعونية، وترجع بداية الاحتفال به إلى نحو عام 2700 قبل الميلاد، ويعود نسبه إلى الكلمة الهيروغليفية القديمة “شمو” وتعني “عيد الخلق” أو “بعث الحياة”، وكان المصريون القدماء يعتقدون أن ذلك اليوم يرمز إلى بدء خلق العالم وبعث الحياة.

وتعرَّض الاسم للتحريف على مرِّ العصور، وأضيفت إليه كلمة “النسيم” لارتباط هذا الفصل باعتدال الجو، وطيب النسيم، وما يصاحب الاحتفال بذلك العيد من خروج إلى الحدائق والمتنزهات والاستمتاع بجمال الطبيعة.

التعليقات مغلقة.