الانتفاضة
تعيش فرنسا حاليا على وقع احتجاجات شعبية عارمة، حيث شهدت العديد من المناطق الفرنسية مظاهرات لم تخلو من حالات شغب وتدمير وإحراق من جانب المحتجين ، كما عرفت انفلات أمني في بعض الحالات من جانب الشرطة، حيث سجلت حالة وفاة بمدينة “نانت” راح ضحيتها شاب في مقتبل العمر كما تم حرق احدى السيارات التابعة للشرطة، الشيء الذي أدى إلى إظهار فرنسا في أبشع صورة ، فرنسا المتناقضة مع الشعارات التي تقوم عليها الجمهورية الخامسة منذ عهد ديغول إلى الآن، والتي تكمن في مبادئ الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، صورة دفعت بعض النشطاء المغاربة إلى تقاسم بعض صور الحراك الفرنسي المنفلت مقابل صور أخرى تعود لحراك الريف المغربي وكذا حراك حركة عشرين فبراير السلميين محاولين وضع مقارنة بين البلدين مع ترجيح الكفة لصالح المغرب كنموذج للسلمية .
هذا ويرجع محللون أسباب هذه الانتفاضة إلى الرأسمال المعولم، وإلى سياسة ماكرون التقشفية، ثم التعبير عن رفض زيارة ولي العهد السعودي إلى فرنسا. وإن كان السبب الرئيسي ،من وجهة نظرنا، يرجع بالأساس إلى السياسة الضريبية التي انتهجتها الدولة ، فضلا عن تزامن هذا الحراك مع مظاهرات عمت مجموعة من عواصم العالم ومنها فرنسا للمطالبة بحماية البيئة ، كما شهد الوضع الداخلي أيضا انتفاضة عمال الصحة رفضا لغياب شروط العمل الكريم والعلاج، بالإضافة إلى التظاهر ضد قانون العمل الجديد ، وتظاهر النساء في 24 نونبر2018.
واعتبر المحتجون أن الإجراء الذي أقدمت عليه الحكومة والمتمثل في رفع الضرائب على مشتقات البترول من شأنه أن يعمق الخلل في “العدالة الاجتماعية” ، وسيوسع التفاوت الحاصل بين تضخم رأس المال العالمي، وسيزداد الأغنياء غنى مقابل ضعف معاشات العمال والمتقاعدين، مع اختفاء أو القضاء على الطبقة المتوسطة.
وارتباطا بالسياقين الإقليمي والدولي فإن الأحداث الفرنسية التي تزعمتها حركة “السترات الصفراء” والتي سبقتها حركة “وقوفا في الليل” من قبل ، ما هي سوى نسخ مكررة لحركة “الساخطون” الإسبانية والتي تحولت إلى جوب “بوديموس” بعد ذلك، وحركة سيريزا اليونانية كذلك. في هذا الصدد يقول عالم الاجتماع الفرنسي ألبرت أوجين:” إن نظام الديمقراطية التمثيلية سبعون عاما من السلام بعد الحرب العالمية الثانية، تعرض للصدأ بعض الشيء ،هذا أمر طبيعي، يوضح أن المواطنين غير راضين عن طريقة حكم حكوماتهم. إنها ظاهرة عامة جدا في أوروبا، توجد أماكن النفور من الأداء الضعيف للنظام التمثيلي أدى إلى ظهور أحزاب تريد ممارسة السلطة اليوم.”
وما يعزز هذا الطرح الدعوة الحالية إلى توسيع دائرة الاحتجاجات والحديث عن حراك “السترات الصفراء” ببلجيكا ودول مجاورة أخرى. وفي فرنسا يلاحظ ارتفاع الأصوات المطالبة باستقالة الرئيس ماكرون، ومن جانب الرئيس فإنه لم تسجل أي خطوة تنازلية أو تراجعية حيث أقر ماكرون في خطابه الأخير وأكد على أنه لن يتم التراجع عن قرار رفع الضرائب ، الشيء الذي ينذر بمزيد من الاحتقان.
ومن وجهة نظرنا ، فإننا نرى أن للأزمة الفرنسية أسبابا أخرى غير مباشرة تعود إلى طبيعة النظام الفرنسي ذاته، النظام شبه الرئاسي، وهو نظام خليط يجمع بين كل من النظام الرئاسي والنظام البرلماني ،وإن كان المقام لا يتسع للتفصيل في فلسفة هذا النوع من الأنظمة، غير أنه وجب الإشارة بشكل مقتضب أن هذا النظام هو سلاح ذو حدين:
-
في حالة تمتع الرئيس المنتخب عن طريق الاقتراع العام المباشر بأغلبية برلمانية فإن مكانته تتقوى وتتسع صلاحياته ومجالات تدخله إلى درجة أنه يمكنه عزل الوزير الأول رغم أن الدستور الفرنسي لا ينص على ذلك.
-
أما في حالة عدم تمتع الرئيس بالأغلبية البرلمانية فإنه لا يملك حيزا من المبادرة ، إلا أن هذه الحالة بدورها تطرح صنفين أو حالتين إضافيتين ، أولاها إذا كان حزب واحد ينفرد بالأغلبية مع وجود أحزاب أخرى كما هو الحال بالنسبة لدولة “ايسلاندا” مثلا، فإن الرئيس يترك المبادرة للحكومة وهذا الوضع يكون أقرب إلى النظام البرلماني.

التعليقات مغلقة.