الانتفاضة
إن المتأمل في القرآن الكريم يجد أن أطول قسم أقسم الله به في كتابه هو في سورة الشمس، حيث يقول الله تعالى : (والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها) أقسم الله تعالى إحدى عشرة مرة بتسعة أشياء، وهو سبحانه ليس في حاجة الى أن يقسم فهو صادق (ومن أصدق من الله حديثا) فعلى أي شيء أقسم سبحانه؟ لا شك أن الذي أقسم عليه عظيم، فهو سبحانه عظيم، لا يقسم إلا بعظيم، ولا يقسم إلا على عظيم.
المقسم عليه هو النفس الإنسانية، ليبين لنا أهميتها وخطورتها، كي ننتبه ونتخذ الحيطة والحذر منها، المقسم عليه هو قوله تعالى (قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها) قد أفلح وفاز من زكى نفسه وطهرها من أدناسها وأرجاسها وأمراضها، وخاب من أهملها وأفسدها ولم يعتن بها فقادته إلى كل شر. ولأهمية النفس وخطورتها كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من هذا الدعاء: “اللهم آت نفسي تقواها وزكّها أنت خير من زكّاها، أنت وليّها ومولاها”، وقد جعل الله تعالى تزكية النفس سببا لدخول الجنة فقال سبحانه (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى).
فنفس الإنسان التي بين جنبيه هي أكبر عدو له، والدليل على ذلك أن أول معصية وقعت في السماء، وقعت من إبليس، سببها نفسه التي وسوست وسولت له التمرد على خالقه، وعدم طاعته في أمره، فأصغى إليها وأطاعها، فكان من المتكبرين المتمردين. ولذلكم قال العلماء رحمهم الله: أربع كلمات مهلكات: “أنا، ونحن، ولي، وعندي”، لأنها كلمات تدل على استكبار النفس وعجبها وغرورها.
أما إبليس فقال: (أنا خير منه) فطرده الله من الجنة، وأما قوم سبأ فقالوا: (نحن أولو قوة وأولو بأس شديد) فأهلكهم الله، وقال فرعون: (أليس لي ملك مصر) فأغرقه الله. وقارون قال:(إنما أوتيته على علم عندي) فخسف الله به وبداره الارض، فكان من الهالكين.
إذا كانت أول معصية وقعت في السماء من إبليس سببها النفس، فإن أول معصية وقعت في الأرض، وأول معصية في تاريخ البشرية، سببها النفس أيضا، سببها الحسد الباعث من النفس الأمارة بالسوء، قال الله تعالى في قصة ابني آدم: (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين) .
إن معظم ما أصابنا اليوم من فتن ومحن وذل وهوان وبلايا، بسبب نفوسنا الأمارة بالسوء، ولن يغير الله حالنا من الشدة إلى الرخاء ومن الذل إلى العزة ومن الانهزام إلى الانتصار إلا إذا عالجنا نفوسنا وأصلحناها وجعلناها مستقيمة لله مطيعة له سبحانه كما قال سبحانه: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم) .
إنه يجب أن نعيد النظر في اهتمامنا بعلاج أنفسنا إذا أردنا السعادة والحياة الطيبة، كما نهتم بعلاج أبداننا أو أكثر، كما قال الشاعر أبو الفتح البستي رحمه الله:
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته أتطلب الربح فيما فيه خسران.
أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان.
وكما قال الإمام البوصيري رحمه الله:
والنفس كالطفل إن تُهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ.
كم حسنت لذة للمرء قاتلة من حيث لم يدر أن السم في الدسم
وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النصح فاتَّهِم
ولا تطع منهما خصماً ولا حكماً فأنت تعرف كيد الخصم والحكم.
ولهذا، فإن العاقل الكيس الفطن هو الذي يعتني بنفسه ويجعلها متحكما فيها لا متحكمة فيه، وذلك بالمجاهدة والمراقبة والمحاسبة، والأحمق من يهمل نفسه حتى تملكه فتقوده إلى كل معصية، يقول ربنا سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني) (جامع الترمذي).
والمؤمن في هذه الدنيا يحاسب نفسه على رأس ماله الذي هو الفرائض، ويحاسبها على النوافل التي هي أرباحه، ويحاسبها على المعاصي التي هي خسارته وهلاكه، فمن وجد نفسه مفرطا في حق من حقوق الله، أو في حق من حقوق نفسه، أو في حق من حقوق أهله وأولاده ووالديه وأحبابه وإخوانه في الدم النسب، أو في حق من حقوق إخوانه في الدين والإيمان، عاتب نفسه ولامها وحاسبها حتى يؤدي لكل ذي حق حقه، قبل أن يؤديها حسنات في الآخرة.
ذكر ابن الجوزي رحمه الله في كتابه “مناقب أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: “أنه جاء رجل يشكو إلى عمرَ وهو مشغول، فقال له: أتتركون الخليفة حين يكون فارغًا حتى إذا شُغل بأمر المسلمين أتيتموه؟! وضربه بالدِّرَّة، فانصرف الرجل حزينا، فتذكر عمر أنه ظلمه، فدعا به وأعطاه الدرة، وقال له: اضربني كما ضربتك، فأبى الرجل وقال: تركت حقي لله ولك، فقال عمر: إما أن تتركه لله فقط، وإما أن تأخذ حقك، فقال الرجل: تركته لله، فانصرف عمر إلى منزله فصلى ركعتين، ثم جلس يقول لنفسه: يا ابن الخطاب، كنت وضيعًا فرفعك الله، وضالًّا فهداك الله، وضعيفًا فأعزك الله، وجعلك خليفةً فأتى رجل يستعين بك على دفع الظلم فظلمته؟! ما تقول لربك غدًا إذا أتيته؟ وظل يحاسب نفسه حتى أشفق الناس عليه”.
لماذا فعل كل هذا رضي الله عنه؟ لأنه يعلم أنه مسؤول أمام الله، وأنه محاسب يوم القيامة عن كل صغيرة وكبيرة، كما قال ربنا سبحانه: (ونضع الموازين القسط ليوم القيمة فلا تظلم نفس شيئا، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين).
اللهم اجعلنا ممن يحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا، ويزنون أعمالهم قبل أن يوزنوا، ويتزينون للعرض الأكبر، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
التعليقات مغلقة.