الانتفاضة
يتعمد العديد من المتسولين إهمال مظهرهم لجذب التعاطف واستدرار عطف المحسنين، فيكدسون الأموال دون أن يستفيدوا منها أو يعيشوا حياة كريمة كسائر الناس. وفي النهاية، لا يُمهل الموت أحدًا، فيجمعون المال قطعةً بعد أخرى، ليتركوه وراءهم لغيرهم أو يُسرق منهم، فيتمتع به آخرون. حكاية اليوم تذكرني بفيضان وادي إسيل بمراكش الذي اجتاح مؤخرا بعض المنازل القريبة منه، جرفت المياه فراشًا سرعان ما تفكك، ليكشف عن كميات من الأوراق النقدية التي طفت على السطح. فكان بعضها من نصيب من اعترضوا طريقها ومسكوا بها . والأوراق الأخرى وجميعها من فئة 200 درهم فعلمها عند عالم الغيب.
في أحد أزقة المدينة القديمة، بجوار ضريح سيدي بن سليمان الجزولي، كان شيخ مسنّ يجلس في ركنه المعتاد، قابعًا على الأرض، أمامه طابق صغير ينتظر عليه إحسان المارة. كان في الستين من عمره، بوجه شاحب وثياب رثة وهيئة تثير الشفقة. كل من يمد له يد العون يسمع منه دعوات الخير والبركة، ولسانه لا ينقطع عن الذكر والدعاء.
يقضي يومه متنقلاً بين الضريح والمسجد، يستجدي المصلين ليحصل على ما يسدّ رمقه. وعند الغروب، يشق طريقه راجلاً نحو دكان صغير لا تتجاوز مساحته أربعة أمتار، استأجره منذ سنوات مقابل ستين درهمًا شهريًا. هناك يأكل، ينام، ويقضي حاجته، وكأنه قطعة من حياته التي لم تتغير منذ زمن بعيد.
لكن الحياة لا تستمر على حال واحد. قرر صاحب الدكان بيعه، بعدما وجد أن الإيجار لم يعد مجديًا. وهنا ظهر الحاج حسن، رجل الأعمال الثري، وأبدى استعداده لشراء العقار، مطمئنًا المالك الأصلي بأنه سيتكفل بأمر المستأجر المسكين.
حين علم الشيخ بأمر البيع، لم يبدِ أي اعتراض، بل قصد الحاج حسن برجاء خافت، طالبًا مهلة ليجد مأوى آخر. لكن المفاجأة كانت أن الحاج حسن لم يشترِ الدكان لطرده، بل ليمنحه السكن دون مقابل مدى الحياة! لم يصدق الشيخ ما سمعه، وكأن دمعة تسللت من عينيه وهو يتلقى المبلغ الذي ناوله له الحاج قبل أن يرحل.
مرت السنوات، وبقي الشيخ على حاله حتى أقعده المرض وألزمه الفراش داخل ذلك الدكان الضيق. وذات يوم، فاحت رائحة غريبة في الحي، وحين كُسر الباب، وجدوه قد فارق الحياة، في هدوء كما عاش. لكن ما لم يكن في الحسبان، أن رجال الأمن حين بدأوا تفحص المكان، عثروا في أحد الأركان على كنز لم يكن يخطر على بال أحد. وسط الرمال المدفونة في زاوية الدكان، كانت هناك رزم من الأموال القديمة والجديدة، بعضها لا يزال متداولًا، وبعضها الآخر يعود إلى عصور مضت، لا وجود لها إلا في المتاحف.
الشيخ الذي قضى عمره متسولًا، كان في الواقع ينام فوق ثروة مخبأة… ترى، هل كان يعلم أنه يشقى من أجل جمع ثروة لن يتمتع بها أبدًا؟ أم أنه كان يخفيها عن أعين الطامعين، متظاهرًا بالفقر كي لا يُسرق؟ أم أن هناك سرًا آخر، رحل معه إلى قبره، وسيظل لغزًا يحير من عرف قصته؟
التعليقات مغلقة.