مراكش تحتفي ب “تقطار الزهر” عيدا لها.

بقلم الباحثة الاستاذة ثريا عربان

فاح أريج العطر ، وعمت البهجة أرجاء مدينة مراكش ،اقتبالا لفصل الربيع ، واستمتعت نفوس ساكنتها ، فَبَدت الابتسامة مرسومة على محيا أصحابها وعابريها ، وتم تبادل كؤوس المحبة ،والفرحة ، والحبور مع بزوغ زهيرات أشجار النارنج التي أكست المدينة حلة رائقة .

فعاشت الدور،والرياض والدروب ، والأزقة ،والشوارع والمؤسسات التعليمية والسياحية، والثقافية أبهى أيامها مستقبلة زهرية مراكش التي تحتفي بها جمعية منية مراكش لإحياء التراث وصيانته ، وهي ّتعد العدّة لزفّها على مدى اثنتي عشرة سنة .
هاهي اليوم تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله ، تضع يدها في يد وزارة الشباب ،والثقافة ،والتواصل وتلبسها أحلى الحلل بألوانها الزاهية وتعطرها بشتى أنواع الطيب .
فبعد إعدادها امتطت هودجها اللجيني حاملة معها البهاء ، والجمال مزينة بقلادة من أغلى المعادن ، والأحجار الكريمة من لؤلؤ وزمرّد وألماس وذهب وفضّة .
فللاسلطانة أبت إلا أن تحيط بها نساء محنّكات جمعن بين الخبرة وحسن الأداء والكياسة والّلياقة في الحفاظ على ماخلفته الجدّات والأمّهات . فكنّ باقة ورد تعطّر المكان ، و مروحة يدوية من ريش النّعام يلطّفن الأجواء ، ومن ورائهن رجال أكفاء كلهم مسؤولية وقدرة على تلبية المطلوب ، حتى تجوب هذه العروس الحسناءأرجاء المدينة من16 إلى26 مارس 2024 ، هذه السنة التي تصادف الاحتفال بمراكش كعاصمة الثقافة للعالم الاسلامي .
فبعدما حطّت الزّهرية “العروس “رحال الاحتفاء بها يوم 09 مارس بمنزل عامر استقبلها أصحابه بكل حفاوة وعاش ضيوفها يوما سعيدا علت فيه زغاريد النساء والصّلوات على النبي ، مصحوبة بنغمات سمفونية تعزف لغة المحبة ،والمودة الممزوجة بتبادل أطراف الحديث حول عملية تقطير ماء الزهر او “تقطار الزهر “وطقوسه.
يوم 16 مارس بمقرها الجبل الأخضر كان يوم الافتتاح حيث اجتمع الأهل ، والأحبة ،والكبار ،والصغار والخبراء ،والشعراء ، والعلماء والحكواتيين ، والطلبة ،والتلميذات والتلاميذ الذين توافدوا على مكان انطلاق الزهرية ،وكلهم عشق ، وفضول لمعرفة ما هو تقطار ماء الزهر ؟ وهنا استجابت الخبيرة لأسئلتهم من خلال ورشتها المتميزة للإحاطة بهذا الموروث اللامادي والوقوف على تقنياته وطقوسه . هذا التقليد المثقل بحمولاته الاجتماعية والنفسية ولاننسى الجانب المعتقادي والتقني والعلمي الذي يسهم بشكل أو بآخر في جودة ماء الزهر المقطر كالحفاظ على درجة حرارة معينة ، والدقة في توزيع وظائف الآنية المخصصة للتقطير، والتي تتكون من ثلاثة أجزاء مع الحرص على وضع قطعة من القماش المطلي بالعجين في ملتقياتها حتي لا ينفلت البخار الذي تحتاجه كمية زهرات النارنج الموضوعة بداخل الجزء الثاني من الإنبيق مع تأكيد الخبيرة على تقنية تقليدية ابدعتها الجدات وتناقلتها الامهات بالنسبة للمبتدئات في هذه العملية وهي وضع قطعة نقدية بالجزء الاول حيث الماء والعبرة انها بمجرد ما يسمع طنينها فذلك اشارة الى ان الماء اصبح في درجة عالية تستدعي اضافة الماء البارد من أعلى جزء يسمى القبة .
كلها تقنيات وقواعد علمية الغاية منها الجودة المبنية على الصون والكياسة والحذق والمهارة والدقة.
وهنا تعزز اللقاء بقراءة شعرية لأحد أعلام المجلس العلمي الأعلى مشيدا بزهرية مراكش ومنوّها بعمل أعضائها الجاد .
من نفس المكان انطلقت السلطانة في جولتها المتميزة زائرة لنادي المدرّس حيث كان درسها لامعا مشعّا استساغته آذان السامع ،وانبهر بعرضه المشاهد ،وصفّق له الجميع لأنها لقّنت الحضور معلومات ومعارف كادت تغيب عن الأذهان رغم أنّ حضورها تابت في الأخلاد .
وبرياض حدائق المدينة أبهرت زهرية مراكش السياح ،وتكلًمت جميع اللغات وشدّت انتباه الزائر ،و المقيم بالمكان ،وجعلت منه متسائلا باحثا عن جواب : ما هي الزهرية ؟ ومن أين لها بهذا الجمال ؟ وما السرّ في علوّ مقامها ؟
فرفعت أعلام آلات التصوير وتدافع الجميع للتّمتع بفتنة جمالها والتّطلع لكشف سرّ حسنها .
بدخولها المؤسسات التعليمية التي احتفت بقدومها فلقد أشع هلالها مع ثانوية الهلالي ، وتوحدت كلمة حضورها على الاعتراف ببهائها ورونقها مع مؤسسة الموحدين ،وتنسّمت زكي وأريج فصل الربيع ، وتذوّقت رحيق زهيرات النارنج مع الثانوية التأهيلية الربيع .
كما عاشت زهو الأدب وانسجام الكلِم مع إعدادية طه حسين ، وكان لها حظ حفاوة الاستقبال مع المركب الثقافي الحي الحسني.
لقد أشبعت دافعها الروحي وتبرّكت بالدّعوات الصالحات والصلوات على النبي (ص) التي تردّدت على لسان قرّاء دلائل الخيرات بضريح سيدي محمد بن سليمان الجزولي .
بمقهى منزه الكتبية احتست كؤوس المحبة وهي تستمتع بمنظر صومعة جامعها التي تعانق عنان السماء حيث التقى عبق التاريخ برونق الزهرية . كما جابت دروب وزقاقات المدينةالعتيقة وصولا إلى مقهى الحكواتيين (بين الفنادق )حيث استمتعت بأروع الحكايات.
لم تغفل للا السلطانة في جولتها زيارة دار الشريفة بدرب الشرفاء الكبير هذه التي تفوح بالتراث متأمّلة في الماضي الزّاهي بمخطوطات المصاحف الشريفةالتي تحتضنها خزانة ابن يوسف إحدى المعالم التي يُفتخر بها في قلب المدينة العتيقة . وبمتحف العطور تذوّقت للاسلطانة أطيب وأرقى مستخلصات زهرات شجرة النارنج .
وبكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة القاضي عياض قرّبت طلبة ماجستير الثقافة والتراث والسياحة المستدامة من موروثً لا مادي مشهود له وألحّت على تطعيمه واستحسنت استثماره حتى يكون مورد اشعاع للنهوض بالبلاد والعباد.
إلى أن حُملت السلطانة ضمن موكبها بشكل يليق بمقامها لتحط الرحال بمركز نجوم جامع الفناء دار البوكيلي بحي القصور وهنا عاشت ليلة عرسها الكبرى حيث عانق حسنها حب الضيوف من كل حدْب وصوْب وأتاها المحبون من كل مكان واحتفى بها العالِم والخبير واعترفت هي بالجميل وتبادلت الهدايا مع الأصدقاء والمحتفين فسُلّطت الأضواء على بهائها الفتّان ورُفعت المرشّات وانتشر عطرها الفواح وامتزجت زغاريد النساء بالصلاة على النبي، وشنّفت آذان السامعين بمقاطع موسيقية من طرب الملحون اهتزت لها النفوس وصفّق لها الحضور وسُمع صيتها في جميع بقاع المعمور فدقّت طبول الفرحة بها.
هكذا بَدت الزهرية نجمة في سماء هذه الدار التي زفت إليها لتضيء طريق الساري . وبمرصد النخيل تحت ضوء شاعري طربت السلطانة وجميع حاشيتها لصوت دافئ وهادئ فاستمتعت بأمسية رائعة جمعت ضيوفا من الطراز الرفيع :المهندسون والأطباء والخبراء والمديرون والطلبة الأكفاء .
بلغة العشق والحبور وعلى أوتار اللقاء المتجدد وبرغبة الاستمرارية ودّعت السلطانة المكان والضيوف وأسدلت السّتار على مراسم الاحتفاء بها لهذه السنة على أمل اللقاء بهم في عيدها المقبل .
هكذا هي للاالسلطانة كلما حطّت الرّحال بمكان إلا وجعلت منه حفلا زاهرا مزهرا تذيق فيه المحبّين والمحتفين بها طعم وحلاوة الماضي فيقتحم حبّها قلوب مشاهديها دون استئذان فتتفتق القرائح وتُرفع الأقلام وتتفنّن الحروف في انتقاء الكلمات التي تليق بمقامها .
فكما أبدع النحاسي الحرفي في إعداد أوانيها كالإنبيق (القطارة) والجردل أوالسطل والغراف ، وشكّل الزُّجاجي البتِّية(اكبر قارورة لجمع ماء الزهر المقطر) وجميع القنّينات بأصنافها وأحجامها وكما استطاع الخياط أن يعدّ لباسها التقليدي ، وتمكّنت النساء الخبيرات من التفنّن في تقطير ماء الزهر، وأتقن العطوري استخلاص عطرها واستطاع المطعمي ان يعد المأكولات على اختلاف انواعها واشكالها .
فإن رونق وبهاء الزهرية فتّق قريحة الشاعر، والزّجال، والحكواتي الذي رجع إلى التاريخ ونسج حكايات دقّت أبواب القصور ،ولامست أسماء الملوك والسلاطين مستحضرا بعض العادات والتقاليد التي تم فيها الربط بين الماضي والحاضر.
أما الزّجال والشاعر فقد أرقص الحرف على نغمات الشعر وتغنى بالزهرية ناظما فيها أبياتا وقصائد تروق لها النفس وتصفّق لها الأحاسيس لأنها تحرك في الصائخ اإليها مشاعر الماضي التليد بزهوه ونخوته وجعلته يعيش متعة الحاضر ويرغب في التطلع الى مستقبل واعد.
هكذا اهتز لجمالها الفتّان الكبار والصغار والعارفون بأمرها والجاهلون لسرّها .

التعليقات مغلقة.