س : كثرت في الأونة الأخيرة حملات ودعاوى حماية المال العام على صعيد مراكش، ما الذي يجعل من هذه الدعاوى مرتفعة بهذا الشكل في ظل وجود أليات قانونية واضحة من خلال المفتشيات العامة والنيابة العامة والمجلس الأعلى للحسابات، هل هناك ضمور لدور هذه الأجهزة الرقابية؟
ج: إن التحليل المنطقي للأشياء و الظواهر كظاهرة الفساد يفيد بأن توسع خارطة هذا الأخير له ارتباط بعدة عوامل ضمنها غياب أسس دولة الحــق و القانون أو ما يمكن تسميته بالحكم الرشيد، و قد ساعد المناخ الذي ولده الحـراك الشعبي عربيا و مغربيا على ظهور شعارات و مطالب قوية كإسقـــــاط الفســـاد و الاستبــداد، و مشكلتنا في المغرب هي وجود نصوص قانونية و آليات إدارية و قضائية (المفتشيات العامة، المجلس الأعلى للحسابات، القضاء، قانون مكافحة غسيل الأموال، القانون الجنائي، قانون حماية المبلغين عن جرائم الرشوة، مجلس المنافسة، الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة….إلخ)، و رغم ذلك فإن أدوارها تبقى محدودة و ضعيفة و لم ترق بعد إلى المستوى المطلوب و يرجع سبب ذلك في نظري إلى عاملين رئيسيين الأول له علاقة بالإطار القانوني المنظم لهذه الهيئات و خاصة ما يتعلق باستقلاليتها، و الثاني له علاقة بقوة الجناح المحافظ في الدولة و المجتمع أو ما يمكن ترجمته بغياب الإرادة السياسية.
س : في الوقت الذي تعتبر فيه مراكش قبلــة سياحية و اقتصادية و لها إشعاع دولي في هذا المجال، يلاحظ أنها تعج بملفات الفســاد الإداري و المالي، في نظرك أين هو الخلل؟ هل في الأجهزة الإدارية أم القضائية أم على صعيد وعي النخب السياسية؟
ج: هذه هي المفارقة فمراكش مدينة تتعايش فيها الثقافات و الحضارات و الديانات و تغري زوارها بمناظرها الجميلة و مآثرها التاريخية التي تشهد على عمق حضارتها لكن الفساد و السطو على المال العام يخدش وجهها الجميل و حولها البعض إلى بقرة حلوب لتنمية أرصدته المالية ضدا على المصالح العليا لمواطنيها في التنمية و العيش الكريم، و قد تمكن لوبي الفساد بالمدينة على غرار مجموعة من المدن المغربية الأخرى، و إن بدرجات متفاوتة من السيطرة على مركز القرار مقابل إقصاء و تهميش نخب ذات كفاءات عالية و توظيف القرار العمومي لخدمة أهدافه و مصالحه الخاصة في ظل ضعف و هشاشة آليــــات الرقابـة الإدارية و القضائية، و ضعف النخب الثقافية و الحزبية، و هكذا فقد تم تفويت الملك العـام إلى شركــات عقارية و أشخاص بأثمنة رمزية تحت غطاء “الاستثمـار” دون أن يعقب ذلك أي تقييم لهذه العملية و هو الشيء الذي بدد الرصيد العقاري بالمدينة، مع العلم أن أسعار العقار عرفت خلال العشرية الأولى من هذا القرن ارتفاعا مهولا و ساهم ذلك في تنمية الأرصـــدة الشخصية لرموز الفساد و ناهبي المال العام.
و مظاهر الفساد بالمدينة لا تنحصر فقط في المؤسسات المنتخبة بل إنها تشمل كافة المؤسسات العمومية و الشبه العمومية و القضاء و الإدارة….إلخ و هكذا فقد تقدمنا حسب ما نتوفر عليه من معطيات و وثائق و حجج بسبعة عشر شكاية لها صلة بالفساد و نهب المال العام و استغلال النفوذ إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بمراكش و هي الشكايات التي أحيل بعضـــها على القضـاء و البعض الآخر لازال قيد البحث التمهيـدي، و قد تسرب البطء و التعتر غير المفهوم لبعضها.
و استطعنا في الهيئة الوطنية لحماية المال العام بالمغرب /فرع مراكش/ أن نخلق دينامية نضالية غير مسبوقة بالمدينة بشهادة الجميع و نسعى من وراء ذلك إلى التحسيس و التوعية بمخاطر الفساد على مستقبل التنمية و القطع مع الإفلات من العقاب في الجرائم المالية و الاقتصادية و توجيه رسائل إلى كل من يهمه الأمر بكون الإصلاح لا يمكن أن يتحقق على أرض الواقع في ظل سيادة الفساد و تبديد المال العام و الثروات الوطنية، لذلك فإننا نريد أن نقول و بصوت مرتفع كفى من الفساد و نهب المال العام مع التأكيد على ضرورة صياغة خطة وطنية شاملة ذات الأبعاد المتعددة بشراكة حقيقية مع المجتمع المدني تهدف إلى القطــع مع الفساد و استرجاع الأموال المنهوبة.
س: لكن الملاحظ أن هذه الدعاوي والحملات لوقف كل تسيب في المال العام، وراءه جمعيات المجتمع المدني لقوى اليسار، هل يمكن القول أن العائلة اليسارية قدمت استقالتها من النضال السياسي إلى النضال المدني؟ وأنها رفعت الراية البيضاء في التدافع السياسي أمام خصومها؟ إلى درجة أن البعض يعتبر أن اليسار اختار الموقع السهل في النضال وهو المعارضة المدنية؟
ج: نريد أن نؤكد بداية على مبدأ أساسي و هو استقلالية الهيئة الوطنية لحماية المال العام بالمغرب عن أية جهة سياسية كيفما كان نوعها و هو المبدأ الذي نحرص عليه كثيرا و قد حاول لوبي الفساد نشر اشاعات بخصوص الهيئـة و ذلك كمحاولة منه لتحريف مسارها و خلق الفتنة و التشويش وسط الرأي العام و هو الشيء الذي لم يفلح فيه و لن يفلح فيه و سينقلب السحر على الساحر.
أما بخصوص سؤالكم المتعلق بجانب منه بقوى اليسار الديمقراطي فإنه لا يخفى عليكم أن هذا الأخير قد ساهم بشكل كبير عبر نضاله التاريخي في مواجهة الفساد و الاستبداد و شكل قوة سياسية و أخلاقية و فكرية لا يمكن تجاهلها أو القفز عليها، و لكن واقعه اليوم يجعلني أتأسف كثيرا فقيادته عاجزة عن تقديم إجابات موضوعية لواقع اليسار التنظيمي و السياسي، كما أنها غير قادرة على القيام بمبادرات تهم مجمل القضايا الحيوية للشعب المغربي (غلاء الأسعار، الصحة، التعليم، الإعلام العمومي، الصحراء المغربية، التشغيل، قضايا الشباب و المرأة، حقوق الإنسان و الحريات العامة…إلخ).
و المؤسف أن جمهور اليسار يتداول هذا الوضع لكن غير قادر على تحويل هذا النقاش إلى نقاش مؤسس يعالج أعطاب و أمراض اليسار الذي يحتاج إلى رجة حقيقية ليستعيد دوره في المجتمع، فالجماهير التي يدعي اليسار نظريا على الأقل بأنه يمثلها و يدافع عن مصالحها أصبحت اليوم معزولة و اليسار بوضعه الحالي غير قادر على القيام بأي شيء تجاهها و عليه أن يتخلى عن النرجسية و الأنانية التنظيمية التي أصابت البعض فخارج وحدة اليسار شعارا و ممارسة لا يمكن للنضال الديمقراطي أن يتقدم و أنا أتساءل لماذا تتعثر كل مبادرات توحيد اليسار رغم عدم وجود اختلافات جوهرية بين فصائله، يحتاج الأمر حقا إلى نقاش صريح و واضح بخصوص ذلك، فكفى من بناء الجدران فلنتجه لبناء الجسور.
فاليسار فقد الكثير من بريقه و وهجه و تعرض لحوادث سير مميتة و أصبح عاجزا عن الابداع و الخلق الذي ميز اليسار لعقود من الزمن.
لقد حصلت تحولات كثيرة عالميا و عربيا و وطنيا دون أن يثير ذلك فضول اليسار لفتح النقاش الفكري و المعرفي لمساءلة و مواكبة هذه التحولات التي مست مختلف الجوانب و زعزعت الكثير من اليقينيات و المسلمات و منظومة القيم حتى لدى بعض مناضلي اليسار و بقي متشبتا بشعارات كلاسيكية يطمئن إليها و يقدم بواسطتها إجابات جاهزة لا تكلفه أي مجهود.
إن المجتمع في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى يسار ديمقراطي يشكل قوة عقلانية و إصلاحية حقيقية متجذرة وسط شرائح المجتمع بعيــدا عن المزايدات و الشعارات الرنانة لمواجهة مشاريع الفساد و الاستبداد و الظلامية، فمن يجرؤ على فتح هذا النقاش دون مركب نقص.
* ناشط و حقوقي و قيادي بحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، رئيس الهيئة الوطنية لحماية المال العام بالمغرب فرع مراكش
التعليقات مغلقة.