في غضون شهر أكتوبر من سنة 1975 أقر الملك الراحل الحسن الثاني بحق المغرب في صحرائه الغربية، وأعلن عن تنظيم مسيرة سلمية مكنت من فتح الطريق لاسترجاع الصحراء بعد أكثر من 75 سنة من الاحتلال الاسباني.
إنها المسيرة الخضراء لتأكيد مغربية الصحراء، والتي شملت 350 ألف مغربي اجتازوا الحدود رافعين القرآن الكريم والأعلام الوطنية.
و بإعلان جلالته عن إطلاق المسيرة الخضراء في نونبر 1975 صنع حدث القرن بامتياز، إن على الصعيد السياسي أو على الصعيد اللوجيستيكي والتنظيمي. انطلق 350 ألف مغربي، في نظام وانتظام، من طرفاية إلى العمق الصحراوي “مدججين” بسلاح خاص غير معهود في الحروب، قوامه كتاب الله (المصحف الشريف) والعلم الوطني والإيمان الراسخ بعدالة القضية. وكانت مناسبة برهن فيها المغاربة عن كفاءة لوجيستيكية عالية وبعد استراتيجي جعلت المسيرة الخضراء تتموقع بين مكوّنات الهوية المغربية. إنها تتويج لحرب خاضها الملك الراحل الحسن الثاني مع الجنرال فرانكو حيث أطلق في وجه الجيش الإسباني حربا سلمية جعلته مكتوف الأيدي.
ألف سؤال وسؤال قد يتبادر إلى الذهن بخصوص المسيرة الخضراء بالنسبة للأجيال التي لم يكتب لها معايشة هذا الحدث العظيم.
لماذا قرّر جلالة الملك تنظيم المسيرة الخضراء لاسترجاع الصحراء المغربية؟ كيف اتخذ هذا القرار الذي اعتبره قرار العمر؟ ولماذا أحيطت هذه المبادرة الملكية بجدار سميك من السرية والكتمان؟ من سهر على إعداد خطتها الأمنية والتنظيمية واللوجيستيكية والاجتماعية وضمان نجاعتها و فعاليتها؟
هذه أسئلة وأخرى شغلت بال الكثيرين سيما وأن المسيرة الخضراء لفتت انتباه الجميع، عموم الناس والمتتبعين والباحثين في جملة من الاختصاصات.
وقد رأى الكثير من المؤرخين وعلماء الاجتماع السياسي وسيكولوجيا الجماعات في المسيرة الخضراء فعلا اجتماعيا وسيكولوجياً خاصاً. ورأى عبد الله ساعف، أستاذ العلوم السياسية أن المسيرة الخضراء كانت أوّل إرتعاشة قومية عاشاها المغرب والمغاربة قاطبة بعد الاستقلال.
يحاول الملف الخاص الذي ندعه بين أيدي القراء الأعزاء استعادة أهم تفاصيل وخبايا هذا الحدث العظيم الذي فجّر إجماعاً شعبياً كبيراً جعل بلادنا تخلق شكلا غير مسبوق من النهوض لترسيخ تطلعات الشعب على أرض الواقع وبتلقائية وصدق.
منذ صيف 1975 تدهورت الأوضاع بالصحراء وبلغ هذا التدهور حدة تطلبت إيجاد مخرج عاجل.
فبعد صدور رأي محكمة العدل الدولية انطلقت المسيرة الخضراء، التي كان الغرض منها الضغط على إسبانيا من أجل جرها للمفاوضات بنية التوصل إلى اتفاق في صالح المغرب. ومنذ الإعلان عن انطلاق المسيرة الخضراء أعلن عن بداية المفاوضات التي آلت إلى اتفاقية مدريد في 14 نونبر 1975.
في البداية التقى أحمد عصمان (وزير أول آنذاك) مع “خوان كارلوس” و”آرياس نافارو”، إلا أن هذا اللقاء لم يثمر، وفي نفس الوقت بعث جلالة الملك الراحل الحسن الثاني أحد وزرائه بمعية عضو من ديوانه إلى الجزائر لمقابلة الرئيس الهواري بومدين على أمل إقناعه، وتبين وقتئذ أن اسبانيا عازمة على الدفاع عن وجودها بالصحراء، حتى ولو أدى ذلك إلى مواجهة مسلحة، وفعلا قامت مدريد باستنفار قواتها المسلحة بالصحراء، ورابط 35 ألف جندي اسباني على بعد أقل من 20 كلم من الحدود الفاصلة بين المغرب والصحراء حينئذ، مع تلغيم جزء منها لقطع الطريق على المشاركين في المسيرة.
وفي يوم 3 نونبر التحق رئيس “الجامعة الصحراوية” (الهيأة الصحراوية الوحيدة المنتخبة)، خاطري الجماني، بالمغرب وجدد البيعة بين يدي جلالة الملك في اليوم الموالي، حيث نظم حفل خاص لهذا الغرض بمدينة أكادير.
وألقى جلالة الملك الراحل الحسن الثاني يوم 5 نونبر 1975 خطابا لإعطاء انطلاقة المسيرة الخضراء، إذ أمر المتطوعين ببداية السير في “نظام وانتظام” صبيحة اليوم الموالي (6 نونبر)، وقال في هذا الخطاب: “غدا إن شاء الله ستنطلق المسيرة الخضراء، غدا إن شاء الله ستطأون طرفا من أراضيكم وستتلمسون رملا من رمالكم وستقبلون ثرى وطنكم العزيز”.
قبل 6 نونبر بأيام قليلة التقى “كارو مارتينيز”، الوزير بالرئاسة، المكلف بالصحراء، بجلالة الملك الراحل الحسن الثاني بأكادير، وأجرى معه حديثا رأسا لرأس دام ساعات لم يعلم أحد فحواه. وفي اليوم الموالي بدأ تحرك الجيش المغربي بشرق طرفاية نحو الصحراء، 20 ألف جندي بقيادة الكولونيل أحمد الدليمي (ثلث القوات المسلحة وقتئذ) مقسمين إلى 4 وحدات، قادها كل من الكولونيل بنعمان والكولونيل بنكيران والكولونيل المجاوي والكولونيل الوالي) .
آنذاك علم المحافظون الاسبان أن أيامهم بالصحراء أضحت معدودة وأنه لا مناص من الجلاء، فعمل الضباط وضباط الصف الموالين لفرانكو على تسريح 2500 صحراوي يعملون بالمجموعات المتحركة ” تروباس نوماداس” والشرطة الحدودية الاسبانية دون تجريدهم من السلاح ووسائل النقل، حيث نصحوهم بالالتحاق بجهة البوليساريو. و بعض هؤلاء هم الذين شكلوا النواة الأولى لمقاتلي الجبهة.
في خضم هذا الجو العام انطلقت المسيرة الخضراء، التي شكلت في واقع الأمر عدة مسيرات، حيث كان كل إقليم يمثل مسيرة، لها قيادتها وهيكلتها لتدبير شؤونها اليومية، وارتبطت هذه القيادات الإقليمية باللجنة المركزية المكونة من ممثلي مختلف الوزارات والمصالح المركزية.
فتحت كل عمالة وإقليم مكاتب لتلقي طلبات التطوع لانتقاء 350 ألف للمشاركة في المسيرة، وهو العدد الذي يمثل المواليد الجدد كل سنة بالمغرب، مع تحديد “كوطا” مسبقة للنساء، 10 في المائة من مجموع المشاركين ( أي 35 ألف امرأة)، كما تم تحديد “كوطا” إجمالية لكل إقليم، مرتبطة بعدد ساكنته. كما تم تعيين 44 ألف مشارك من الرسميين والمؤطرين والإداريين ، كما ساهم في المسيرة 470 طبيبا وممرضا.
على امتداد 12 يوما عملت 10 قطارات يوميا وبدون انقطاع على نقل المتطوعين من الشمال إلى مدينة مراكش، ومنها إلى أكادير على متن الشاحنات والحافلات التي بلغ عددها 7813. لقد تم نقل المتطوعين من أكادير إلى مخيمات أقيمت لاستقبالهم بضواحي طانطان وطرفاية.
تحركت الموجة الأولى من المتطوعين يوم 23 أكتوبر 1975 انطلاقا من مدينة الرشيدية. وشارك أكثر من 5000 عون مدني (موظفو الدولة والجماعات المحلية) في تأطير المتطوعين علاوة على مجموعة من المنتخبين.
على سبيل المثال لا الحصر، رافق 10 آلاف متطوع من الرباط- سلا، 8 قواد و20 من الشيوخ والمخازنية وطبيبان و12 ممرضا و62 مرشدا اجتماعيا و20 من الوعاظ و63 إطارا وموظفا مدنيا في اختصاصات مختلفة و120 عنصر من الكشفية.
وقام ما يناهز 20 ألف فرد من القوات المسلحة والدرك بتأطيرها وحمايتها والحفاظ على سلامة المشاركين فيها. وبالرجوع إلى الإحصائيات والأرقام المتوفرة تبين أن المسيرة الخضراء تطلبت ما يناهز 20 ألف طن من المواد الغذائية، وأكثر من 2500 طن من المحروقات و230 سيارة إسعاف.
كيف جاء قرار المسيرة الخضراء؟
لقد تأكد أن جلالة الملك الراحل الحسن الثاني اتخذ قرار إجراء المسيرة الخضراء لوحده، ولم يجتمع مع حكومته، وغاب عن المجلس الوزاري طيلة شهر كامل. لم يجتمع جلالته بالحكومة إلا في 18 أكتوبر 1975، أي 18يوماً قبل الإعلان عن المسيرة.
وحسب الباحث هشام الحصيني صاحب أطروحة “الممارسات التفاوضية لدى الدبلوماسية المغربية المتعددة الأطراف: دراسة في مفاوضات مدريد الثلاثية لسنة 1975 “، أن أحمد عصمان أكد أن المسيرة الخضراء تمت بتنسيق واتصال مع جهات عدّة. وفي مقدمتها إسبانيا، ولا سيما كبار ضباط الجيش الإسباني، كالجنرال “دوفليبيس “، وكذلك السياسيين وعلى رأسهم رئيس الحكومة وقتئذ “أرياس نافارو ” ،هؤلاء كانوا مقتنعين بضرورة الاتفاق مع المغرب والجلاء عن الصحراء، باستثناء وزير الخارجية آنذاك “كورتينا ” الذي فضّل التنسيق والاتصال مع الجزائر.
وكان الوفد المغربي المفاوض مع إسبانيا يضم كل من أحمد عصمان (الوزير الأول) وأحمد العراقي (وزير الخارجية) والعربي الخطابي وكريم العمراني وعبد السلام زنيند.
عندما قرر جلالة الملك الراحل الحسن الثاني تنظيم المسيرة استدعى وزير التجارة ووزير المالية وقال لهما: “إن شهر رمضان قد يكون قاسياً، إذ المحاصيل الزراعية كانت متوسطة، فهل يمكنكما من باب الاحتياط تخزين كمية من المواد الغذائية حتى إذا كنا في حاجة إلى عرضها في السوق أمكننا المحافظة على تبوث الأسعار، وليكن تموين يكفي لشهر أو شهرين”. لم يفطنا الوزيران لشيء وهذا ما كان يرغب فيه الملك.
ثم استدعى جلالته الذين سيصبحون إلى جانبه المسؤولين الثلاثة عن المسيرة الخضراء: الجنرال أشبهار الكاتب العام لإدارة الدفاع والجنرال بناني من المكتب الثالث والكولونيل ماجور الزياتي من المكتب الرابع الذين أدوا اليمين بين يدي جلالته بعدم إفشاء السرّ حتى ولو لم يكونوا متفقين على ذلك. ثم شرح لهم جلالته أن المسيرة ستضم 350 ألف مشارك، وهو العدد الذي يولد من المغاربة سنوياً. فشرعوا فوراً في التخطيط، وقد كانوا يدونون كل شيء بأيديهم، بدءاً بإحصاء كمية الخبز والماء والشموع والخيام…
وظلوا يعملون في السر حتى مطلع شهر أكتوبر 1975. وكان لابد من الإسرار للحكومة بذلك، وكذا لعمال الأقاليم حتى يفتحوا في الوقت المناسب المكاتب لتسجيل المتطوعين.
وتكلف بتأطير المتطوعين كبار ضباط القيادة العليا للجيش والدرك والأمن الوطني والقوات المساعدة، سيما وأن جبهة البوليساريو صعدت من تهديداتها بعرقلة المسيرة والهجوم عليها، مما فرض الحرص على اليقظة. أما بخصوص اللوجستيك فقد اضطلع بها مهندسو الجيش، في حين عمل عمال الأقاليم والعمالات (ممثلو جلالة الملك) على تصريف الخطاب الملكي على أرض الواقع وذلك بتسجيل وإحصاء المتطوعين وجرد الحاجيات وتوفير وسائل النقل من حافلات وشاحنات.
وينضاف لهؤلاء 700 رجل سلطة وخلفائهم الذين استدعوا إلى مقر وزارة الداخلية لإجراء دورة تكوينية وتم نقلهم إلى بنكرير حيث تلقوا دروساً في تنظيم وتأطير الجماهير وذلك في سرية تامة ودون علمهم بغاية ذلك، ولم يستوعبوا الأمر إلا عندما سمعوا الخطاب الملكي على الساعة السادسة والنصف مساءاً يوم 16 أكتوبر 1975.
لقد تم بناء معسكرات بطانطان وطرفاية وأيضا بمراكش وأكادير (مدن المرور واستراحة المتطوعين) وتم تشكيل مخزون كبير من المؤن الغذائية والأدوية.
وتم تسخير 300 شاحنة تابعة للمكتب الوطني للنقل، كانت تتنقل يومياً ليل نهار بين وسط البلاد وطانطان وطرفاية لنقل المؤن والأدوية تحضيراً للمسيرة الخضراء. كما سُخّرت 1200 حافلة لنقل المتطوعين.
وقد تم تأمين نقل 23 ألف طن من الماء و17 ألف طن من المواد الغذائية كمخزون احتياطي، كما تم مضاعفة هذه الأرقام بنسبة 2,5 بسبب تمديد فترة المكوث بالصحراء من 21 أكتوبر إلى نهاية نونبر، أي إضافة 63 ألف طن من الماء تقريباً و43 ألف طن من المواد الغذائية. إضافة إلى ذلك تمت تعبئة 10 آلاف خيمة، واقتناء 430 ألف آنية للطبخ وأكثر من 35 ألف غطاء.
من أين استوحى جلالة الملك فكرة المسيرة؟
من أين استوحى جلالة الملك الراحل الحسن الثاني فكرة تنظيم المسيرة الخضراء؟
ظل هذا السؤال شاخصاً في أذهان العديد من المغاربة منذ أن أخذت المسيرة الخضراء مجراها في 6 نونبر 1975، إذ إن البعض منهم، سيما أولئك المحسوبين على زمرة المثقفين، ساروا على درب الاعتقاد أن جلالة الملك الراحل الحسن الثاني حاكى تجارب بعض الزعماء والقادة في تنظيم مسيرات تختلف منطلقاتها ومراميها، خصوصاً فيما يتعلق بالهدف المتوخى منها.
وفي هذا المضمار ذهب البعض إلى الاعتقاد أن جلالة الملك الراحل الحسن الثاني استوحى فكرة تنظيم المسيرة الخضراء من المسيرة الكبرى التي قادها الزعيم الصيني “ماوتسي تونغ” أو من مسيرة الملح الهندية التي قادها وتزعمها “المهاتما غاندي” إبّان الاحتلال البريطاني للهند، لكن لجلالة الملك الراحل الحسن الثاني رأياً آخر بهذا الخصوص إذ قال جلالته: “في 20 غشت، كان عليّ أن ألقي خطاباً بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب… وعشية ذلك اليوم كنت أتساءل مع نفسي: (ترى ماذا عساي أقول في هذا الخطاب؟)، وفي المساء، بعد أن أديت صلاة العشاء خلدت للنوم، فاستيقظت فجأة في منتصف الليل تراودني فكرة نفذت كسهم إلى ذهني وهي: (لقد رأيت آلاف الأشخاص يتظاهرون في جميع المدن الكبرى مطالبين باستعادة الصحراء، فلماذا إذن لا ننظم تجمهراً سلمياً ضخماً يأخذ شكل مسيرة؟) وهنا أحسست أني قد تحررت من عبئ ثقيل للغاية”.
بعد هذا المنولوغ الذي جلجل في صدر جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، اكتفى جلالته في خطابه لليوم الموالي بالتطرق لبعض القضايا العامة، وباله مشغول بالمسيرة التي شرع في إعدادها توّ انتهاء جلالته من خطابه السامي.
الاجتماع السري مع ممثلي الملك في الأقاليم
جرت العادة بتنظيم اجتماع سنوي بوزارة الداخلية يضم كل عمال الأقاليم لتدارس جملة من القضايا، إلا أنه سنة 1975 توجه العمال إلى الرباط فأخبرهم وزير الداخلية أن اجتماع هذه السنة غير عاد، ثم رافقهم إلى القصر للمثول أمام حضرة الملك.
في تلك الليلة الرمضانية المباركة (26 شتنبر 1975) علم ممثلو جلالة الملك في الأقاليم بأمر المسيرة الخضراء وأقسموا أمام جلالة الملك الراحل الحسن الثاني بالحفاظ على السر، وبمجرد عودتهم إلى أقاليمهم قاموا بحصيلة ما يتوفرون عليه من مخزون المواد الغذائية ووسائل النقل (حافلات وشاحنات) وخيام وأغطية تحت غطاء مهام وهمية لعدم فضح أمر المسيرة.
بعد اجتماع 26 شتنبر توجه 700 رجل ومعاون سلطة بوزارة الداخلية إلى قاعدة بن كرير للخضوع لتكوين مكثف وسريع بخصوص تأطير المجموعات ودروس في المواطنة والوطنية، على غرار ما سبق تطبيقه على المتطوعين لبناء طريق الوحدة في بداية الاستقلال عندما كان جلالة الملك الراحل الحسن الثاني وليا للعهد، حيث ساهم فيها وأنجزت تحت إمرته، وقد خضع 700 من المختارين في ذلك التدريب دون علمهم بأمر المسيرة الخضراء.
لقاء جلالة الملك الراحل الحسن الثاني مع “صوليس”
جاءت مقابلة جلالة الملك الراحل الحسن الثاني مع الاسباني “صوليس” لتحضير الأجواء من أجل مخرج يرضي البلدين معا، وقد تم الاضطلاع على جانب مما دار في هذا اللقاء، عبر محضر أعده وحرره السفير الاسباني بالرباط، في ظل آخر حكومة لفرانكو بمعية “أنطونيو غاميرو” الذي تولى وزارة الإعلام في أول حكومة، شكلها الملك “خوان كارلوس” بعد توليه العرش رسميا كملك اسبانيا.
ومما جاء في هذا التقرير أن “صوليس” حرص على أن يبحث مع جلالة الملك الراحل الحسن الثاني عن مخرج يحفظ مساعي الأمم المتحدة، ويضمن تخلص إسبانيا من ملف الصحراء. وكان جلالته حريصا بدوره على تسوية ودية للقضية مع إسبانيا، اعتبارا لأن تعاونهما مضمون، خلافا لما كان عليه الحال مع الجزائر، إذ كان جلالة الملك يستبعد أي دور للجزائر ويحبذ الاقتصار على تسوية إسبانية ـ مغربية ـ موريتانية.
في هذا اللقاء، حسب تقرير السفير الاسباني، بدأ “صوليس” حديثه بإبراز تفهم الحكومة الاسبانية لصعوبة إلغاء المسيرة الخضراء التي قرر جلالة الملك تنظيمها، غير أنه صرح بأنه من الممكن إصدار الأمر إلى المشاركين فيها بالتوقف، عند اجتياز الحدود ببضعة كيلومترات لا أكثر.
يوم خطاب 16 أكتوبر 1975
يوم 16 أكتوبر 1975، موعد الخطاب الملكي الشهير، كان الحضور بقصر مراكش كبيراً جداً، إذ حضر العديد من الصحفيين من مختلف الدول ومن مختلف القنوات، خاصة الإسبانيين الذين كان حضورهم لافتاً للأنظار. كان الترقب سيد الميدان بفعل الأجواء المشحونة لمعرفة حكم محكمة العدل الدولية بلاهاي. وكان الجميع متلهفا لسماع الخطاب الملكي لمعرفة هل سيعلن المغرب الحرب على إسبانيا أم لا؟
وفي هذا المضمار يقول محمد أقاصيب، مخرج بالتلفزة المغربية: “قال لنا صحفياً فرنسياً ونحن داخل القصر الملكي بمراكش، إذا أطل الحسن الثاني بلباس عسكري، فإنه سيعلن الحرب، وإذا أطل بلباس مدني فسيكون العكس، فإذا بالملك يطل بلباسه الأنيق كعادته معلناً في خطابه عن المسيرة الخضراء” .
ويضيف محمد أقصايب:
“في يوم الغد أُعطيت التعليمات لتبقى وحدة التلفزة المغربية مرابطة بالقصر الملكي بمراكش لمواكبة أنشطة الملك الصحفية. وحينما أنهينا تغطية حوار جلالته مع جريدة إسبانية ولمّا رغبنا في الانصراف خاطبنا جلالة الملك الراحل الحسن الثاني بلباقة ضاحكاً: “بلا ما تخرجو الماتريال ديالكم، راه جميع الخطب واللقاءات ديالي غادي نديرها هنا في القصر داخل هذه القاعة خليو داك كشي ديالكم هنا راه في الأمان”.
وبخصوص البث يأكد محمد أقاصيب:
“كنا نسرع و نسابق الزمن لحمل الأشرطة المصورة إلى طائرة عسكرية بطرفاية لينقلها الطيّار العسكري إلى مطار أكادير، ومن هناك تنقلها القوات المسلحة إلى القاعدة الجوية العسكرية بسلا ليتسلمها زملاؤنا بالرباط قصد حملها إلى التلفزيون لبثها، وكانت هذه العملية تتم على مدار 24 ساعة على 24 ساعة. وساعد على دقة التنظيم وسير التعاون بين التلفزة ومصالح الجيش أن مدير التلفزة حينئذ، قويدر بناني، هو شقيق الجنرال عبد العزيز بناني.
قرار الحسن الثاني فاجأ مخابرات الدول العظمى
خطرت فكرة تنظيم المسيرة الخضراء للملك الراحل الحسن الثاني شهورا قبل إعلان محكمة “لاهاي” الدولية عن رأيها الاستشاري في ملف الصحراء، علما أن طرح هذه القضية على المنتظم الدولي ظل مطلبا ثابتا تكرر لعدة سنوات.
كما أن خطاب المسيرة لم يكن مرتبطا برأي المحكمة الدولية ولا باستفحال مرض فرانكو، وإنما كان ذانيك الحدثان بمثابة ساعتين، لكل منهما توقيتها الخاص، لكن عقارب كل من الساعتين سجلت التقاء الموعدين.
حسب رشيد الحديكي، صاحب مؤلف متميز بخصوص السياسة الخارجية في عهد جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، وهذا ما أكده كذلك الصحفي البريطاني “سيتفان هوغيس ” (Stephane Hughes)، تولدت فكرة تنظيم المسيرة الخضراء لدى الملك الحسن الثاني في مايو 1975 على الأقل”، إذ في حديثه يوم 8 مايو مع إذاعة “فرانس بريس”، لمح إلى ذلك عندما سأله الصحفي عن دواعي وأسباب تجمع القوات المسلحة المغربية على طول الحدود مع الصحراء آنذاك، وكان جوابه أنه بمثابة إجراء وقائي لحماية مسيرة سيقوم بها المغاربة والملك في مقدمتهم، في اتجاه الصحراء، وذلك تحسبا لو قام بعض “المعقدين” بإطلاق مسلسل “تقرير المصير” بالصحراء.
بدأ التخطيط الفعلي للمسيرة الخضراء يوم 21 غشت 1975، حينما أسرّ جلالة الملك الراحل الحسن الثاني بعزمه على تنظيم مسيرة إلى الصحراء لثلاثة عسكريين، “الكولونيل أشهبار ،الكولونيل بناني والكولونيل الزياتي ،حيث كلفهم بالاعتكاف لإعداد مخطط شامل للمسيرة.
وبهذا الخصوص يقول رشيد الحديكي ” على امتداد 20 يوما كان تبادل المعلومات بخصوص الإعداد للمسيرة، بين الرباط والأقاليم، يتم كل ليلة بواسطة أشخاص، لم يسمح لهم باستعمال الورق والكتابة ولا الاتصال عبر الهاتف أو الراديو أو التليكس، فكل المعلومات كانت تمرر بطريقة شفوية تحت جناح الظلام وفي سرية تامة.
وبعد سويعات من إعلان محكمة “لاهاي” عن رأيها يوم 16 أكتوبر 1975، كشف جلالة الملك الراحل الحسن الثاني للعالم عن قراره الرامي إلى تنظيم المسيرة الخضراء، لقد فاجأ الجميع بما في ذلك مخابرات الدول العظمى.
في البداية حدد موعد انطلاق المسيرة يوم 26 أكتوبر للمزيد من الضغط على مدريد لقبول الدخول في مفاوضات، وكان أول رد فعل قامت به الحكومة الاسبانية، أنها سحبت ملف الصحراء بين يدي وزير خارجيتها المعروف بقربه للجزائر، وسلمته إلى الكاتب العام للحزب الوطني (وكان وزيرا آنذاك) “خوسي صوليس رويز”، الذي طار إلى الرباط يوم 21 أكتوبر لمقابلة الملك بمراكش وتحادث معه عدة ساعات. بعد ذلك أعلن جلالة الملك الراحل الحسن الثاني عن إرجاء انطلاق المسيرة إلى يوم 26 أكتوبر، وعندما اتضح أن المسار يتجه نحو الحصول على اتفاق بين الرباط ومدريد أرجئ موعد الانطلاقة مرة أخرى إلى 6 نونبر لإعطاء مزيد من الوقت قصد التوافق بخصوص المفاوضات.
آنذاك لم تبق الجزائر مكتوفة الأيدي، وإنما كان رد فعلها فوريا، إذ بدأت تلوح بتهديد توقيف صادراتها من النفط والغاز إلى اسبانيا، الشيء الذي دفع التيار المناهض للمغرب في صفوف الحكومة الاسبانية، إلى الدعوة لعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن للتصدي للمسيرة الخضراء، وذلك بعد أن أعلنت الحكومة الاسبانية عن عدم استبعادها لاستعمال السلاح إذا تجاوز متطوعو المسيرة الحدود الوهمية.
في 5 نونبر حضر “أندري ليوين” المبعوث الأممي إلى المغرب وقابل جلالة الملك، وبعد محادثات طويلة حصل الاتفاق على أن خرق الحدود سيكون رمزيا، ولن تصل المسيرة إلى “الدوارة” حيث كانت ترابط الجيوش الاسبانية.
وفي صبيحة اليوم الموالي (6 نونبر) أصدر جلالة الملك الراحل الحسن الثاني أمره بانطلاق المجموعة الأولى من المشاركين، وضمت 44 ألف متطوع، آنذاك وافقت اسبانيا على إجراء المفاوضات وأصدرت الأوامر لجنودها بالصحراء بعدم إطلاق النار.
حضر مبعوث اسبانيا إلى المغرب يوم 8 نونبر من أجل إخبارجلالة الملك الراحل الحسن الثاني بأن الحكومة الاسبانية مستعدة للتفاوض، وانطلقت المفاوضات يوم 12 نونبر بمدريد، في حين عاد المشاركون في المسيرة إلى مخيماتهم بطرفاية وطانطان ومكثوا هناك ينتظرون تعليمات جديدة.
بعد مرور ثلاثة أيام أسفرت المفاوضات عن اتفاق جلاء الصحراء مقابل التزام المغرب.
آنذاك صرح الجنرال “سالازار” قائد القوات الاسبانية للصحفي البريطاني “ستيفان هوغيس”، قائلا :” همي الوحيد هو انسحاب رجالي من الصحراء بكرامة، مرفوعي الرؤوس وترك المغاربة والجزائريين يتنازعون فيما بينهم”.
حين فكر الحسن الثاني في الاستقالة
لم يكن قد دار ببال المغاربة أن جلالة الملك الراحل الحسن الثاني الذي حكم المغرب ما يزيد عن ثلاثة عقود ونيف، قد تخالجه فكرة التنحي عن حكم المغرب، من كان يظن أن هذا الملك العظيم قد يترك فكرة من هذا النوع تحتل تفكير جلالته لحظة، لتصبح شغله الشاغل آنذاك، خاصة وأنه سعى بكل الوسائل إلى تثبيت دعائم الحكم بمملكة العلويين و تجديث المغرب.
صرح مؤنس جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، الراحل “بين بين”، الذي نذر حياته في سبيل ترويق مزاج ملك المغرب آنذاك، أن جلالة الملك الراحل الحسن الثاني كان على أهبة تقديم استقالته والتنحي عن الحكم إذا ما فشلت المسيرة الخضراء في بلوغ أهدافها المنشودة، أي استرجاع الأقاليم الصحراوية. لكن كيف تسللت فكرة التخلي عن حكم المملكة إلى مخيلة جلالة الملك الراحل الحسن الثاني؟
“ماذا كنتم ستفعلون لو أخفق رهانكم على المسيرة الخضراء”؟ كان هذا السؤال واحد من عشرات الأسئلة التي ألقاها الصحفي الفرنسي “إيريك لوران” على جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، وبغض النظر عما أفضى به ملك المغرب آنذاك من أجوبة لإطفاء حرقة السؤال، غير أن مضمونها حسب المتتبعين، أخذ طابع اعترافات لم يكن من السهل أن تنطلق على لسان ملك عظيم، فماذا كان سيفعل جلالة الملك الراحل الحسن الثاني لو اخفق رهانه على المسيرة الخضراء؟ يقول جلالته جوابا على ذلك في كتاب “ذاكرة ملك”: “عندما عدت إلى الرباط قادما من أكادير صعدت إلى شرفة القصر لأتأمل اخضرار ملعب الغولف، ونظرت إلى البحر نظرة مغايرة وأنا أخاطب نفسي (لقد كان من الممكن أن لا تعود إلى الرباط إلا للم حقائبك استعدادا للمنفى)، فلو فشلت المسيرة لكنت استقلت، إنه قرار أمعنت التفكير فيه طويلا بحيث كان يستحيل علي أن أترك على الساحة ضحايا لم يكن لهم سلاح سوى كتاب الله في يد والراية المغربية في اليد الأخرى. إن العالم كان سيصف عملي بالمغامرة… وكما نقول عندنا في اللهجة المغربية “ما كان بقي لي وجه أقابل به الناس”.
إن فكرة التنحي عن العرش التي جثمت بثقلها على ذهن جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، كان من شأنها أن تشكل أزمة دستورية وسياسية، لكن جلالته كان قد وضع كل الاحتمالات من أجل ذلك.. وجوابا عن الكيفية التي كان من الممكن أن يتصرف جلالته على ضوئها سياسيا ودستوريا، فقد قال ” كنت سأشكل مجلسا للوصاية في انتظار أن يبلغ نجلي سن الرشد، وكنت سأذهب للعيش في فرنسا أو في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالضبط في نيوجيرزي، حيث أتوفر على ملكية هناك”، لكن هل كان جلالة الملك الراحل الحسن الثاني على أهبة الرحيل عن المغرب في حالة فشل المسيرة الخضراء؟، “أجل… وفي هذه الحال كان غيابي سيكون جسديا فقط، لأن المرارة لن تفارقني لاسيما وأنني ذقت طعم المنفى”، يقول جلالته.
أيام عصيبة
حسب المقربين، تغير مزاج جلالة الملك الراحل الحسن الثاني منذ بداية أكتوبر 1975، حيث أضحى سريع الغضب لا يأكل ولا ينام إلا نادرا، يكاد لا يفارق سماعة التلفون.
كان الحسن الثاني يتابع لحظة بلحظة تحركات المتطوعين الـ 350 ألف في المسيرة الخضراء منذ انطلاقة المجموعات الأولى من مختلف جهات المملكة وتجميعها بمخيمات أقيمت بضواحي طرفاية وطانطان، ثم الانطلاق نحو “الطاح” لاختراق الحدود بعمق 15 أو 20 كلم، وإقامة مخيم هناك على مسافة قريبة من موقع تمركز الجيوش الاسبانية. آنذاك تمكنت عناصر من الجيش المغربي من التسلل إلى الصحراء، وقبل ذلك بيومين (فاتح وثاني نونبر) حدثت اشتباكات في شمال الصحراء بين عناصر القوات المسلحة ومقاتلي البوليساريو، الأول أسفر عن سقوط 50 قتيل والثاني عن 37 قتيلا.
يقول الصحفي الاسباني “خافيير توسيل” في إحدى مقالاته الشهيرة، نشرها تحت عنوان “المسيرة الخضراء التي حركت مسلسل استرجاع المغرب لصحرائه الغربية”: لقد جرت مقابلة في 21 أكتوبر 1975، بين الحسن الثاني والمبعوث الاسباني، “خوصي صوليس” لتدارس عواقب قرار المغرب بتنظيم مسيرة جماهيرية سلمية نحو الصحراء الخاضعة آنذاك للحكم الاسباني.. وأضاف أن الملك الحسن الثاني وصف ذلك اللقاء بأنه حديث من “أندلسي إلى أندلسي “”.
وكان صوليس غير مؤهل ديبلوماسيا للقيام بهذه المهمة، إذ لم تكن تربطه أي علاقة بجلالة الملك الراحل الحسن الثاني، ولا يعرف الكثير عن المغرب، فكل سوابقه بهذا الخصوص تدل أنه خرج للصيد ذات مرة رفقة جلالته، إذ لم يبرم أي اتفاق خلال هذا اللقاء، إلا أنه حدد مسار كل الأحداث اللاحقة، وانتهى الأمر بجلاء اسبانيا عن الصحراء.
يقول “توسيل”: خلال هذا اللقاء تبادل الملك والمبعوث الاسباني عبارات كيفت الأجواء ووجهت الخواطر نحو البحث عن انفراج للأزمة التي نشبت بين المغرب وإسبانيا، هذا في وقت كان الجنرال فرانكو قد دخل فترة الاحتضار.”
علما أن جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، حينما قابل “صوليس” لم يكن يعرف بخطورة الحالة الصحية لفرانكو، وقبل أسابيع كانت هناك دعوة أوربية لقطع العلاقات مع مدريد على إثر إعدام أعضاء من منظمة “إيطا” الباسكية، إذ شنت آنذاك حملة عالمية قوية ضد حكم فرانكو بعد الأحكام القاسية الصادرة في حق أولئك، ضمنهم سيدة حامل. ندد الإعلام ومعه مختلف المحافل الدبلوماسية، شرقا وغربا، بفرانكو، باستثناء بلدين اثنين في العالم أجمع، الشيلي (في عهد بينوشي) والجزائر “(في عهد الهواري بومدين). آنذاك انفردت جريدة “المجاهد” الجزائرية بالقول إن نظام فرانكو ضحية لحملة صهيونية بسبب موقفه المؤيد للعرب، ومن الأسباب التي دفعت الجزائر إلى اعتماد هذا الموقف الغريب آنذاك، الحفاظ على ود وزير الخارجية الاسباني “كورتينا إي ماوري” الممثل للتيار المراهن على الجزائر، المناهض للتيار داخل حكومة فرانكو، الذي كان يريد التخلص من ملف استعماري ظلت اسبانيا تجره معها وجلب لها متاعب في المجتمع الدولي وعمق عزلتها، وكاد أن يلقي بها في فتن داخلية على غرار ما وقع في البرتغال بعد اندلاع ثورة القرنفل.
كان للجزائر آنذاك دافع خاص، الحفاظ على التفاهم مع “كورتينا إي ماوري” بخصوص الصحراء، إذ كان هذا الأخير بصفته وزيرا للخارجية يعتمد بقوة على التزكية الجزائرية لموقف إسبانيا الهادف إلى إنشاء نظام انفصالي بالصحراء، ضدا على المغرب الذي طالب استعادة السيادة على أقاليمه الجنوبية، معززا آنذاك بموقف مبدئي من لدن الجامعة العربية، التي صرح أمامها الرئيس الجزائري الهواري بومدين، في قمة 1974 قائلا بأن الجزائر لا مطلب لها في الصحراء، لا برا ولا بحرا، وإنها تؤيد الاتفاق المغربي الموريتاني، بل زاد على ذلك بتأييدها للمغرب في استعادة سبتة ومليلية من اسبانيا. علما أن التقارب بين “كورتينا” ونظيره الجزائري بشأن الصحراء، كان قد تبلور في محكمة “لاهاي” الدولية منذ مايو 1974، حيث انبرى المندوب الجزائري آنذاك، البيجاوي، لتعزيز الأطروحة الاسبانية بشأن الأرض الخلاء، وكذلك كان الأمر في عدد من المحافل الدولية، إضافة إلى تحريك الأدلة الإعلامية الجزائرية في اتجاه تكريس نظرية تقرير المصير.
ومن أقرب المقربين لجلالة الملك الراحل لحسن الثاني في هذه المرحلة الصعبة، مؤنسه وجليسه “الفقيه بين بين” الذي رافقه على امتداد 33 سنة لم يفارقه خلالها حتى آخر لحظة في حياته، وقد عرف “بين بين” بصراحته وجرأته وعدم تهيب الجلوس في حضرته.
قال “بين بين”: “تغيرت عادات جلالة الملك الحسن الثاني فجأة ولم يعلم أحد سبب هذا التغيير، إذ لم يعد يحلو له أن يقرأ الكتب ويناقش مجالسيه ومحاوريه حول محتوياتها كما كان من قبل، ولم يعد يدخل مع مؤنسه في مساجلات أدبية يتبادلان خلالها قرض الشعر ويتنافسان في الإتيان بالأجود من المعاني والألفاظ، تغير كل هذا وامتلك غضب مستمر جلالته ، وبدأ يقضي فترات طويلة من الليل والنهار في التأمل والتفكير العميق.
أضحى يفضل العزلة وانقطع عن تناول الأكل، وبلغ الحد بالمؤنس إلى محاولة دفعه لتناول ولو ياغورت أو عصير، ورغم استخدام كل ما في جعبته من ظُرف فكاهة ونفس مرحة وذهن يقظ، واستغلال ود وثقة ومحبة جلالة الملك له، لم ينجح مرارا في إقناع الملك بتناول ولو جزء يسير من الطعام خلال تلك الفترة.
ومن اللحظات العصيبة، تلك المرتبطة بسعي جلالة الملك الراحل الحسن الثاني إلى إرغام مدريد “الفرانكاوية” على قبول المفاوضات المباشرة، حيث لم يهدأ باله إلا بعد نيل مراده.”
فتحت التهديد الذي شكلته المسيرة الخضراء، في وقت كان فيه الجنرال فرانكو طريح الفراش، لم يبق أمام اسبانيا إلا قبول المفاوضات مع المغرب وموريتانيا، والتي ستنتهي باتفاقية 14 نونبر 1975 .
وحسب “موريس باربيي” (Maurice BARBIER) أمر جلالة الملك (الراحل) الحسن الثاني ليلة 6 نونبر بإبلاغ مدريد بأن المسيرة الخضراء ستواصل طريقها، اللهم إذا قبلت الحكومة الاسبانية بداية المفاوضات الثنائية فور تسليم الصحراء للمغرب وإقرار سيادته عليها، ولم يستبعد الملك آنذاك مواجهات بين متطوعي المسيرة والقوات الاسبانية إن لم تقبل إسبانيا خوض المفاوضات، وأضاف جلالة الملك الحسن الثاني… وفي حالة حدوث مواجهات ستضطر القوات المسلحة المغربية للتدخل، وكان هذا بمثابة تهديد مباشر وصريح، علما أن الرباط نفت ما أقر به “موريس باربيي” الذي استمر في الدفاع عن صحة ما نشره، مضيفا أن الوزير بنهيمة هو الذي تكلف بإبلاغ الرسالة المتضمنة للتهديد إلى سفير اسبانيا بالرباط، والتي كشفت مدريد عن فحواها بعد عرضها على مجلس الأمن في اجتماعه الطارئ يوم 6 نونبر 1975، ورغم هذا قامت اسبانيا كذلك بتكذيب أن تكون عرضت الرسالة المذكورة على مجلس الأمن لكنها لم تنف فحواها (جريدة “لومند” 8 نونبر 1975، ص 3 ) .
وحسب معلومات مستقاة من أحد الوزراء السابقين فضل عدم الكشف عن هويته، خلال هذا اليوم استشاط غضب جلالة الملك، وظل متعصبا منذ منتصف نهار 6 نونبر إلى حدود منتصف ليلة 7 نونبر، ولم يجرؤ أحد على مكالمته، وحاول كل من كان بحضرته الاختفاء عن نظره بأية وسيلة، ولم يهدأ غضبه إلا حينما بلغ إلى علمه أن الاتجاه المساند للمفاوضات باسبانيا أخذ يسيطر على الموقف. آنذاك، وعلى حين غرة، تغيرت ملامح جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، حيث بدا منشرحا يلاطف الحاضرين بأكادير، بين مكالمة هاتفية وأخرى، إذ لم يكف هاتفه وجهاز الاتصال “الراديو” عن الرنين، فمرة يتكلم العربية وأخرى الفرنسية، وأحيانا يستعمل عبارات وألفاظ بالانجليزية أو الاسبانية. ويضيف الوزير.. وصباح يوم 8 نونبر حضر الوزير الاسباني، المكلف بالصحراء، “أونطونيو كارو مارتينيز” إلى أكادير رفقة السفير الاسباني بالرباط لمقابلة جلالة الملك قبل الشروع في مباحثات مع الوزير الأول (أحمد عصمان) ووزير الخارجية (أحمد العراقي) آنذاك، حيث تم الاتفاق على استئناف المفاوضات. وفي يوم 9 نونبر أعلن دلالة الملك الراحل الحسن الثاني عن وقف المسيرة الخضراء ومطالبة المشاركين فيها بالعودة إلى المخيمات معلنا أن الغاية منها قد تحققت. وهذا ما حصل، إذ عادوا إلى مخيمات، طرفاية وطانطان في انتظار مآل مفاوضات مدريد وظلوا على أهبة الاستعداد للانطلاق من جديد نحو الصحراء في حالة فشلها.
رغم أن حدة غضب جلالة الملك الراحل الحسن الثاني قد انخفضت بشكل ملحوظ على امتداد يومين، سرعان ما استشاط واستطار بدءا من الساعات الأولى من ليلة 9 نونبر عندما علم أن المختار ولد داداة تسرع في المساومة وحاول إفهام الملك أن بإمكانه الانحياز إلى الجزائر أو البوليساريو، وقام الرئيس الموريتاني بمقابلة الرئيس بومدين يوم 10 نونبر وطلب منه هذا الأخير، من حيث لا يحتسب وبلهجة شديدة، الاختيار بين الوقوف بجانب المغرب أو بجانب الجزائر بدون لف ولا دوران، هذا ما لم يستسغه المختار ولد دادة، ثم سعى إلى لقاء جلالة الملك، وهو ما تم يومي 12 و13 نونبر بمراكش. وبعد هذا اللقاء التحق وزير الخارجية الموريتاني حمدي ولد مكناس، بالوفد المغربي المفاوض بمدريد، ولم ينتظر الرئيس بومدين طويلا للقيام بالرد على هذه المستجدات، حيث قام يوم 11 نونبر بتفقد جيشه المرابض بـ “بشار” غير بعيد عن الحدود الجزائرية المغربية.
في ذلك اليوم غضب جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، وارتفعت درجة غضبه عندما علم ببداية الحملة الإعلامية التي شرعت فيها ألمانيا الشرقية ضد المغرب، وكان رده سريعا، إذ قطع علاقاته الدبلوماسية معها صبيحة يوم 13 نونبر، ويضيف مصدرنا.. وجه جلالته إنذارا إلى جميع الدول المحسوبة على المعسكر الشرقي آنذاك.
ارتسمت الابتسامة على محيا جلالة الملك الراحل الحسن الثاني صبيحة 14 نونبر مع الإعلان عن فحوى اتفاقية مدريد، والذي كان بمثابة انتصار دبلوماسي مغربي موريتاني، ثم زادت فرحة جلالته عندما بلغ إلى علمه تشجيع واشنطن لهذه الاتفاقية ودعمها.
وهذا ما تأكد في لقاء نائب كاتب الدولة، “ألفريد أطيلتون” بجلالة الملك الراحل الحسن الثاني في 22 أكتوبر، وكذلك سفر مدير المخابرات المركزية الأمريكية بالنيابة “فيرنون والترز” إلى مدريد.
وبعد الإعلان عن اتفاقية مدريد، سمحت الإذاعة الجزائرية للبوليساريو بتخصيص حصة دائمة لـما سُمّي لحظتئذ بـ ” صوت الصحراء الحرة” موجهة ضد المغرب، وحصة أخرى لـ “صوت كاناريا الحرة موجهة ضد إسبانيا، الشيء الذي أثار من جديد موجات متتالية من غضبات جلالة الملك الراحل الحسن الثاني المستطيرة.
المسيرة الموازية”
موازاة مع المسيرة الخضراء المدنية والعلنية، عمل الحسن الثاني على الإعداد لمسيرة أخرى، لكنها سرية وعسكرية. إذ نادى رجل ثقته آنذاك أحمد الدليمي وكلفه بالعمل على التسلل إلى الصحراء برجاله، وذلك لأنه أيقن منذ أن أعلنت محكمة “لاهاي” عن رأيها وقدمت الأمم المتحدة تقريرها في موضوع الصحراء سنة 1975 ، أن الأرض ستعود لمن يحوزها بمجرد أن يغادرها الجنود الإسبان. وذاك ما كان، إذ ما أن تم الإعلان عن وقف المسيرة الخضراء حتى كان الجيش المغربي بقيادة أحمد الدليمي قد رسخ أقدامه على جزء من تراب الصحراء بدءا من الشرق (عملية أحد).
عندما كانت الأنظار موجهة صوب المسيرة الخضراء، انطلق أحمد الدليمي بجيشه لضمان التواجد الفعلي على أرض الصحراء، فقبل الإعلان عن وقف المسيرة، كان قد توغل على مسافة 100 كلم في الصحراء، متقدما نحو “الفارسية” مرورا بـ “الجديرية” ثم “الحوزة” فـ “المحبس” وصولا إلى السمارة دون أدنى مقاومة.
التعليقات مغلقة.