شباب متطوعون من اجل خدمة الحجاج والمعتمرين

الانتفاضة/محمد السعيد مازغ

كلما اقترب موسم رمضان او الحج إلا ورأيتهم جنودا مجندين من أجل خدمة المعتمرين والحجاج، لا تشغلهم تجارة ولا بيع ولاشراء، ولا تلهيهم مشاغل الدنيا ومتاهاتها ، فهم يؤجلون كل مشاريعهم وما تصبو اليه انفسهم من اغراض ومهام إلى ما بعد موسمي الحج او العمرة، ويكرسون جهدهم وتفكيرهم واهتماماتهم بكل ما يتعلق بالسفرة ، من الإعداد القبلي، إلى أن تتفرق الجموع ويعود زوار الرحمن سالمين غانمين الى اوطانهم.

هم من شباب مكة المكرمة، وضعيتهم المادية ” مستورة” والحمد لله، فهم لا يتوفرون على عمل قار، ولا ماهية محددة، ولكن كفاحهم اليومي، والمصداقية التي يتمتعون بها جعلتهم في غنى عن السؤال واستجداء الغير، ولدوا وترعرعوا بين شعاب ام القرى، وتربوا على يد علمائها وفقهائها، فكانوا مثالا وقدوة للشباب السعودي الملتزم، رغم ان القانون يميز بين السعودي ” القح”، وبين من هم من جنسيات أخرى، الشيء الذي يجعل المقيم يشعر انه مواطن من الدرجة الثانية، يحمل جنسية البلد الاصلي لآبائه وأجداده، والتي تلاحقه اينما حل وارتحل، وتستمر مع الابناء والاحفاد..كما يكتوي بنارها الأبناء والأحفاد، علما أن كثيرا منهم، لا يٍربطه ببلده الأصلي إلا جواز سفر، فهو لم يزره قط، وقد يجهل بعضهم تحديد موقعه الجغرافي على خريطة دول العالم، وبالأحرى ان يتقيد بتقاليده وعاداته والانتساب اليه.

شباب مكة، فتحوا أعينهم على المملكة السعودية، ورضعوا من حليبها ولبنها، وجالوا بين حواضرها وبواديها، فهي وطنهم الحقيقي، الذي يستحق التضحية من أجله، والموت في سبيل عزته ونصرته. لا يرضون عنه وطنا بديلا . ولا الابتعاد عنه وقطع الصلة به، هذا الارتباط يحيلنا إلى واقعة تاريخية، لها دلالات عميقة في حب الوطن والتعلق به،  ونقتبسها من  رسولنا الحبيب – صلّى الله عليه وسلّم – حين اجبر على فراق وطنه الغالي مكّة، فعندما خرج منها مجبوراً قال:” ما أطيبكِ من بلد، وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أنّ قومك أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ “؛ فمن كلام رسولنا الكريم يتبيّن لنا واجبُ الحبّ الذي يجب أن يكون مزروعاً في قلب كلّ شخصٍ تجاه وطنه، سواءً أكان صغيراً أم كبيراً.

المهم أن هؤلاء الشباب تشبعوا بالاخلاق الفاضلة، ونكران الذات، مرابطين داخل الحرم الشريف، متطوعين او عاملين باجر زهيد من اجل مهمة محددة، يبتغي القائم بها وجه الله، فالمال يبقى مجرد وسيلة لقضاء الحاجات الدنيوية البسيطة، أما الهدف فهو أكبر وأسمى من ذلك، فخدمة ضيوف الرحمن لا تقدر بثمن، لان اجرها مضاعف ،والعمل الصالح فيها يقرب إلى الله، مصداقا لقوله تعالى : ”   وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) “، إذن  فخدمة الحاج تعتبر  وسام شرف يعلقه كل واحد على صدره، ومن حقه أن يجتهد ويجاهد من اجل الاكثار من الخير، والفوز برضى الله، ويحرص على أن تكون تلك الأعمال خالصة لله، لا تتلوّن برياء ومنّ ولا بكبرياء .يقول تعالى :” اليه يصعد الكلم الطيب. والعمل الصالح يرفعه “

ومن تَمَّ، فهؤلاء الشباب الذين تعرفت عليهم عن قرب، واقتربت من عالمهم الخاص، واذكر منهم: ” الشيخ احمد مرزوق، عبد الصمد الطاهر، أبو عنتر،  ابراهيم هوساوي، حامد السوداني، صالح يزيد وغيرهم كثير،  اعتبرهم نموذجا صالحا يستحق الاقتداء به، حيث لمست فيهم مجموعة من الصفات النبيلة التي بدأت كثير من المجتمعات الاسلامية تفقدها،، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، احترام الكبير سنا، والحياء، والتطوع العفوي من أجل تقديم المساعدة للناس عامة، و لذوي الاحتياجات الخاصة، والمرأة والطفل بصفة خاصة، التسامح والإيثار، ملازمة المسجد، المساهمة في التحسيس والتوعية…

والجميل، أن هذه الخصال العالية، يقابلها  الميل إلى البساطة في كل شيء.. في الأكل والشرب واللباس..وحتى في الحديث، فأغلبهم لا يدعي المعرفة والعلم، وله قابلية عجيبة للاصغاء للاخر، والاستعداد للمساهمة في التنظيم والنظافة والارشاد، وأيضا في تهييء الاجواء الملائمة لحسن الاستقبال، ومرور الموسم الديني في ظروف حسنة.

ولا أعتقد ان أحدا ممن كتب الله له زيارة المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة خلال رمضان او طوال الأيام التسعة الأولى من شهر ذي الحجة، والتي يستحب فيها الصيام لمن لم يكن ضمن أفواج حجاج بيت الله الحرام- ، لم يصادف أصحاب الموائد وهم يتنافسون على استضافة كل من يدخل من أبواب المسجد النبوي، الشريف قبل أذان المغرب، نفس الأمر بالمسجد الحرام بمكة، حيث يوزع ماء زمزم والتمر ، والشاي والقهوة..على كل من تطأ قدماه المسجد، وترى جماعات الشباب كخلية نحل تؤدي الواجب بشكل جيد ومهني. وعلى محياهم سعادة تبدو جلية كلما حظى أحدهم بإقناع الصائم بالافطار على مائدته. و قد تبدو بعض هذه الاعمال الخيرية بسيطة جدا ومتواضعة للغاية، ولكن رمزيتها ونتائجها عظيمة ومدهلة, ولها الاثر الحسن على نفسية ضيوف الرحمن، وعلى سمعة البلد المضيف.

إن المتأمل لهؤلاء الحجاج القادمين من كل بقاع العالم، وهم جالسين في هدوء ووقار ، ينتظرون في خشوع وتذكر آذان مغرب رمضان سواء في ساحة المسجد الحرام، أوعلى مشارف الكعبة المشرفة، أو في سطح المسجد وبين قبابه الثلاثة، أو في التوسعة الجديدة، جميعا يسبحون ويستغفرون ويتلون كتاب الله، او يصلون، يتناصحون، و ينصتون لحلقات الذكر ، خشوع وتدبر، وسكون وسكينة، صفوف متراصة، وثياب معظمها بيضاء ناصع لونها، واحترام متبادل، قلوب ملؤها الحب في الله والاخاء، وألسنة رغم اختلاف لهجاتها ولغاتها ، يوحد بينها رابط الاسلام، ويجمعها الدعاء الصالح للفرد والمجتمع وكافة البشرية، فلا رفث ولا جدال ولا فسوق ـ  ،  وتحرسها الكلمتين العظيمتين:” لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم”.

كل ذلك يجسد أحد الأسرار الإلهية، التي تختزلها الآية  الكريمة :” وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ..” وأيضا الآية : ” ولَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”. وفي قلب هذه الاجواء تجد شباب مكة المتطوعين لخدمة الحاج والمعتمر، ” يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما اوتوا،ويوثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة” ،

يقول أحمد أبو عنتر : نحن مؤمنون بأهمية هذا العمل الانساني، و كل انشغال عنه يعد تركا لاحد الواجبات التي لا تقل اهمية عن الصلاة والصوم والزكاه… فقدسية المكان، وأهمية الزمن،والاجر المضاعف ، يجعلنا لا نفوت هذه الفرصة الثمينة التي قدرنا العلي العظيم على الفوز بفضائلها،وتقديم خدمات لاعظم ضيوف في الدنيا، وهم ضيوف الرحمن.

عبد الصمد: خدمة الحاج كبرت معي، وهي جزء مني، فعبد الصماد ربط قلبه بالحرم الشريف، وضيوفه هم ضيوفي اخدمهم بعيوني،فحين سئل الرسول عليه الصلاة والسلام عن ((أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قال: تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتَقْرَأُ السَّلَامَ على من عَرَفْتَ وَمَنْ لم تَعْرِفْ)) متفق عليه. وهذا ما أسعى لتطبيقه سائلا الله ان يجعله في ميزان حسناتي.

التعليقات مغلقة.