خبز الدار لا يعلى عليه

من وحي الصورة :

الصورة ليست لقطة عدسة طائشة، ولا مشهدا مقيدا بمكان وزمان معينين، وإنما هي عالم نابض بالحياة، تتجسد فيه الأفكار والانفعالات الخامدة، منه تتولد طاقة تخيلية، لهيبها أقوى من لهيب بؤرة الفرن المتقد بفتات نجارة، أو سعف نخل جانح، وبقايا خشب يتبس.، هي سفر تاريخي يستحضر الماضي ويختزل الحاضر في نسق متناغم، يتفاعل على وقعه الشعور الإنساني والتكافل الاجتماعي وبراءة الطفولة..،

خصال مجتمعية كثيرة آخذة في التلاشي والاندثار، بعد موت الشعور بالإنسان، كإنسان له كرامة، له حق في الحياة، وأضحى التكافل الاجتماعي وسيلة للتباهي والتسويق الإعلامي، وتفخيم الذات وتجفيف المنابع وهدرها في المهرجانات التافهة والحفلات الباذخة والصفقات الخاسرة، أما براءة الأطفال فقد نقش كل حرف من حروفها على صفحات البيدوفيليا المتوحشة ، والهدر المدرسي، وتزويج القاصرات،وخدمة البيوت، وقضاء جل وقت الفراغ أمام الرسوم المتحركة، والمسلسلات التلفزية الساقطة.

 ورغم هذا وذاك، ما زال الخير يستوطن بعض القلوب المؤمنة بإصلاح الذات وخدمة الوطن، تعمل في صمت، وتسدي خدمات جليلة وتغلب المصلحة العامة على مصالحها الخاصة، كما رحمة السماء ترخي بضلالها وتنعش الأمل في مجتمع متضامن متماسك وسليم. يدرك المخاطر المحيطة به، ويعي واجباته ومسؤولياته، وما تتطلبه التحديات من صبر وحزم وعزيمة وأخلاق ….

عودة إلى الصورة من باب الذكريات:

فتح محمد عينيه في أحد الدروب العتيقة بمدينة مراكش، كان يطلق عليه درب سبعة رجال نسبة إلى الأولياء السبعة الذين اشتهرت بهم المدينة، وكان وما زال في مدخل الدرب مسجد وفرن عتيق شاهدان على ذلك العصر .

يتأبط محمد محفظته، ويقف منتظرا حمل الوصلة الى الفرن وعيناه تترقبان الخبزة الصغيرة التي كانت أمه تسويها خصيصا له، كان شكلها يثير شهيته، فهي على شكل قرص، ولذلك تتعمد أم محمد بتسميتها ” قريصة ولدي الصغير “.

كلما همَّ بمغادرة البيت، ترن في أذنيه كلمات أمٍّه وهي توصيه : ” انتبه يا بني، خبز الدار لا يعلى عليه، فهو غني بالسعرات الحرارية، ويقوي ذاكرة الحفظ وسلامة الجسم، تجنب أكل الحلويات وما يعرض بالدكان، لأنها تضر بالأسنان، وتسبب أمراضا كثيرة، وحين تعود سأطبخ لك خضرا وفواكه وأهيء لك كوب شايِ بالنعناع الخالص، يحرك رأسه بالإيجاب دون أن يحرك لسانه، ثم يسرع الخطى نحو الخارج، لم تكن الخضر تعجبه، فهو يعشق علب الأسماك، والمربى المعسل، والحلويات المصنّعة، أما الخضر فلا يعشق منها سوى البطاطس المقلية وبعض السلطات التي كانت تطبخها أمه بإتقان بعد تزويدها ببعض  قطع السمك والبيض والتوابل.

بساطة عيش، عزة نفس وتواضع، طقوس متشابهة، وعادات متوارثة ، سمات مشتركة تجعل من الدرب سكنا، ومن الساكنة أسرة، ولكبار السن مكانة ووقارا، كما للجوار حرمة، لدرجة يسأل البعض على أخلاق الجار قبل شراء الدار، يكفي أن توضع وصلة خبز أمام باب دار، حتى تتخطفها أيادي المتطوعين  لإيصالها إلى “الفرّان “، خدمات مجّانية معروضة،لا يُراد منها جزاء ولا شكورا.

جلّ الأمهات يستيقظن باكرا، يحرصن على وضع الدقيق والملح وقطعة من العجين المخمر ، ثم يُشَمِّرْنَ على سواعدهن، ويسْتَمرن في الدّلك إلى أن يلين العجين، فَيٍسَوٍّينه بشكل دائري على قصعة من طين أو خشب الجَوْز أو الليمون، وحين تتشقق اللوحة أو تتكسر ، يأخذها الوالد إلى مصلح القصعات، الذي يقوم بترميمها وإصلاح كسورها بعد إحاطتها بسلك متين يمنع القصعة من أن ترشح، حيث يتم تركيزه بإتقان، كانت مهنة اصلاح القصعات مهنة قائمة الذات، وأغلب مهرتها من اليهود المغاربة الذين كانوا يتواجدون بكثرة في كثير من المهن الحرة، فلم تكن في السوق وفرة المنتوج، ولم تكن الأموال متداولة بهذا الشكل الذي أصبحنا نعيشه في عصرنا هذا، لذا فاللجوء إلى إصلاح العطب أهون من اللجوء إلى السوق.

يعصر محمد ذاكرته، يرى نفسه وهو يجري ويلهو بإطار عجلته الفولاذي، كان يعشق حمل قضيب حديدي يثني جزءه العلوي حتى يصير صالحا لدفع العجلة والتحكم في مسارها وانعراجاتها، لم يكن يسمح له باللعب إلا بعد خروج الوالد إلى العمل، إلا أن شيطنة الطفولة تدفعه للتمرد على التعليمات، فيتسلل أحيانا من البيت حبوا لملاقاة أقرانه الذين يلعبون الكرة في رأس الدرب،وبعدها يترقب عقوبة الوالد وحماية الأم ودفاعها المستميت عنه.

يعود إلى البيت، يتظاهر وكأن شيئا لم يقع، يتجه نحو المطبخ، يحمل وصلة الخبز على رأسه، ثم يهرول مسرعا تجاه الفرن، كان الأبناء من الذكور هم من يقوم في الغالب بهذه المهمة، أما الإناث فمحدور عليهن ولوج هذا الفضاء إلا عند الضرورة، ربما خوفا عليهن من التحرش بهنّ من طرف الوافدين من الغرباء على الفرن، أو لتمسك الأسر بإبعاد الإناث عن أماكن الاختلاط.

 

المعلم ” مول الفران ” هو رجل خبير بوصلات الخبز، وبحالاته، يقدم الناضج من الخبز، ويؤخر الفطير، يرسم داخل بيت النار صفوفا متراصة، يصفف داخلها الخبز بطريقته الخاصة، مستعينا بالطرّاح الخشبي وبعض الفراغات التي تساعده في التمييز بين خبز هذه الدار من تلك، و معرفة عدد ” الخبزات ” الخاصة بكل وصلة خشبية، له دراية عالية بمستويات الحرارة، حيث يلهب النار، ويتركها معتدلة أحيانا أخرى.

المعلم “مول الفران، لا  تنحصر مهمته في دائرة “الفرن أو الفران” وما يستقبله يوميا من وصلات الخبز وصواني الحلويات ، فهو عين مطلة على أحوال الدرب وخصوصية كل بيت على حدة، يعرف عدد أفراده، المشتغل منهم والعاطل، الغني والفقير… يقصده المقبلون على الزواج فيعطيهم نبذة عن الأسرة وزوج المستقبل، والباحثون عن سكن فيرشدهم إلى المساكن الفارغة، وعلى أصحابها، وغيرها من المهمات التي تقاسمتها معه اليوم اطراف متعددة...

بعد عقدين من الزمن او ما يزيد، عاد محمد إلى درب سبعة رجال بحي الموقف، وقد اشتد عوده، وتبدلت ملامحه، وتطاولت لحيته، و تساقط طرف من شعره الأمامي، كانت كل البيوت مغلقة، وقد تآكلت حيطانها، ولعب الزمن وتقلبات الطقس والاهمال دوره في تداعي بعض الدور، وتركها غارقة في ركامها، جدران تتوجع من ألم شقوق غائرة، تتمدد طولا وعرضا، لونها الاحمر صار باهثا، ارضية محفرة، وغرباء بالدرب، عفوا لقد اصبح محمد هو الغريب الذي تلاحقه عيون بعض الفضوليين وهو يتجول بين البيوت، ويتوقف بين الفينة والأخرى ليديم النظر في معلمة من معالم درب سبعة رجال، ما زال الضريح ببابه الضيق لصيقا بالمسجد، وكانت تروى حوله القصص والخرافات التي كان يصدقها دون تمحيص او تشكيك في صحتها،سمع عن إمام المسجد، فبينما هو يسير بخطى ثابتة قبل صلاة الصبح، فإذا برجل طويل القامة، قوي البنية، جميل الوجه، بلحية معتدلة، يرتدي عباءة صوفية، تتربع على واجهتها رقع اُثواب بألوان مختلفة، أصفر وأحمر وأخضر، وأسود…. تخالها ألوان طيف تركزت على عباءة الرجل لتمنحه صفة “بوهالي” أو ولي من أولياء الله أو جني في هيئة إنسان،

يقف كالطود في طريق الإمام، يبدأ بالسلام، ويطلب منه التوقف للحظة، يرفع الإمام عينيه، ويتأمل الطلعة البهية، ولسانه يتلو المعوذتين، وفرائصه ترتجف من شدة الخوف والمفاجأة، كان في قرارة نفسه يتساءل: من يكون هذا الغريب، هل هو إنسي أم جني؟ وماذا يريد؟ ، تجمدت أوصاله، وتوقف شعره،

 وسرت قشعريرة في جسده، التفت الى الخلف، كان كالغريق يبحث عن النجاة، أخرج الرجل حزاما تكومت خيوطه وتداخلت الوانه ، وسلمه للإمام، طالبا منه أن يصدقه بمكة على أحد الفقراء، استغرب الإمام من هذه الهدية ، وأبدى اعتذاره لأنه لا نية له ولا امكانيات مادية تسمح له بالسفر إلى الديار المحرمة، إلا أن الرجل كان مصمما على تسليم الحزام للإمام، وتبشيره بحج مبرور. تناول الإمام الحزام، واسرع الخطى نحو المسجد لتجديد الوضوء.

يبتسم محمد، وهو يسترجع هذه الحكاية القديمة، وغيرها مما علق بذاكرته، وعيناه لا تكاد تفارق فرن الحي، الذي خلا من وصلات المنازل، وأصبحت الوجوه الجديدة التي لم يتعرف على أحد منها، هي من تخبز الخبز، وتطبخه، ثم تضعه في وصلة طويلة عريضة، ليس نيابة عن نساء الحي، بل لأنها وجدت في بيع الخبز للمطاعم والدكاكين ملاذا بعد ان فرقت الأفران الصناعية الرخيصة الثمن بينها وبين زبنائها القدامى، ولم يعد يصلها من وصلات البيوت إلا القليل القليل، الذي لا يكفي لسد نفقات صاحب الفرن.

بقلم : محمد السعيد مازغ

 

 

 

التعليقات مغلقة.