جدلية الشعر والقصة عند مقابلة محمد بوعابد وعبد اللطيف النيلة

عبد اللطيف سندباد

أن تجالس علمين من قلب الإبداع الأدبي والفكر المراكشي، وأن تصغي إلى رفضهما الواقع على النصوص الإبداعية، وان تساهم في تحرير وإذكاء الذاكرة من جديد والتجدير لتحقيق الرهان  في الامتاع والاستمتاع سواء بالكتابة للوجود أو للجمال أو للمعرفة الثاوية في الساحة الثقافية لمدينة مراكش، بلا غرو أن الضرورة تحط رحلها بين مبدعين:  الشاعر محمد بوعابد والقاص عبد اللطيف النيلة.

من قلب حي المحاميد بمراكش في مسارات الإسهام في تشكيل ذاكرة فضاءات النخيل في علاقتها بالإبداع الشعري والمسرحي والمحكي السردي يتناغم الاثنان في جدلية واحدة غنية بالمنجز الأدبي، في انفتاحها على طموح طيب نحو الفعل والممارسة الأدبية.

هذه الإشارة إلى المبدعين العلمين من طرفنا، تلقيناها في غمرة استباحة فاعليتنا النفسية، للحظة استضافتهما لنا بإحدى مقاهي حي المحاميد ضمن أيام ربيعية مناصرة للإلهام الأدبي بامتياز، وعلى أنغام كوكب الشرق الراحلة أم كلثوم تجاذبنا أطراف الزمن الثقافي في أبعاده الجملية ودون ذلك، ولم أمنع نفسي للقبض على لحظة التعامل مع إبداعاتهما الخلاقة  والتأمل في مسارهما الثقافي كمنتجين للنصوص.

في إلقاء شعري لإحدى قصائد الشاعر محمد بوعابد تسربت إليّ ـ وعلى ما بدا ليا من محيى الزميل القاص عبد اللطيف النيلة ـ انفعالات سحرية استلبتني لمبادلتها المشاعر النقدية والتحليلية في إرهاصاتها الأولية وكأن الشاعر بوعابد يرصد الأرواح التي تشع في معمارية القصيد وبنيتها الشكلية ونهلها المعجمي من مقامات الحريري وبديع الزمان الهمذاني للارتقاء بالمتلقي لحالة العشق الممزق بين حب الشعر الجميل والنثر المحيل على السرد القصصي، صور شعرية مسكونة بماء بالاغتراف من معين لغة تتهادى بين الوضوح والغموض في ثنايا ابداعاته.

رهافة التعبير الشديد في نصوص شعر بوعابد ميسمها خصوصا في القصائد التسع المبثوثة في ثنايا ديوان ” ماء ريم ” الصادر عن مطبعة وليلي مراكش سنة 2011، تجتاح انفعالات المتلقي وتذكي لحظات المتعة والفائدة بعواطفه وعقله المفكر، وعبر صفحات ممالكه الشعرية ينسكن الشاعر لمراكش لحد الجنون بها، وصدم الإحساس، فمراكش ملهمته وروحه في ربى الواحات يشدو بلبلا هيمانا بلحنها ومواويلها:

إنها لا تأتيني

ولا إليها تجيئني،

فهي الكون يكونني …

إذ أبدها والأزل تستنبت ببدني ..

عبارات في درجة التقديس لمراكش، تظهر معها قصيدة ” مراكش ” كل محاولة للكشف عن إشراقات وومضات، كلما دنوت منها تدلت لك وتجلت في ساحة جامع الفنا وبواباتها ورحباتها وحوماتها وحوانيتها ومزاراتها وزواياها وعرصاتها ومساكنها … فمراكش بالنسبة للشاعر لا متناهي في المكان، وتحيله دوما على التدفق والانسيابية في الزمان، ودواخله منفى لمدينة مراكش، لا يستقر بوعابد على حال فهو في انتفاضة دائمة للبحث عن مراكش في أحشائه للخروج بها من القوة إلى فعل التجسيد الخلاق للصور الشعرية، يقول على لسان البلبل الحزين الموسيقار فريد الأطرش:

بساط الريح

يا بو الجناحين !

مراكش فين ؟؟

وتونس فين ؟؟

وعن أكثر اللحظات النصية المثيرة للعاطفة المكانية، والتي يستعذبها القارئ بقليل من شكوى الإيغال، اختياره لبنية لغوية ثاوية في القواميس العتيقة، لا يقبض القارئ على معناها إلا بالعود المعجمي أو السياق الدلالي والتداولي للنص.

          الأمسية التي قضيناها مع الزميلين في الفنون الأدبية تمحورت حول الراهن من التيمات الثقافية بالمدينة، من قبيل الشعر والشعراء والشواعر، والقصة والمسرح والترجمة والمسألة اللغوية والتربية والتكوين والملتقيات الأدبية، وأوضاع اتحاد كتاب المغرب، وجحود المثقفين بعضهم للبعض هنا بمراكش … وغير ذلك من المواضيع التي لا زالت حدتها مفتوحة لم تهدأ إلى حد الآن، كما تضمن تسجيل هذه اللحظة إقرار بعدم اختزال شعرية بوعابد في ما أشرنا إليه بل هو حالة للكتابة العرضانية تتناص لفظا ومعنى، شكلا ومضمونا، إيقاعا وصوتا … لتأسيس كينونة خاصة متمركزة على المتعة والقيمة من أجل المكان، هذا التفرد الإبداعي لبوعابد نجد له معادلا موضوعيا في رصد الإبداعات السردية للقاص عبد اللطيف النيلة من خلال مجموعته القصصية: ” قبض الريح ” عن دائرة الثقافة والإعلام ـ الشارقة 2005، و ” البيت الرمادي ” عن دار وليلي ـ مراكش 2008، مجموع قصصه القصيرة نسجتها تسعة عشر قصة تئن كلها  تحت وطأة تجربة بصيغة الجمع، وتتلون باستمرار في النشأة والنمو والاكتمال ولا تأتيه التجربة القصصية تعسفا أو إسقاطا بل المتأمل في متنها السردي يكشف عن تدفقها ومخاضها في سياقات متعددة ومرتبطة بمضامين ذات حمولات سيكولوجية واجتماعية وسياسية .. هذه الحمولات ورطت القاص النيلة في الكتابة من أجل نصوص سردية وإن انطلقت من الوقائع الحسية والموجود اليومي فهي سرعان ما تكشف للمحلل أن القاص يكتب من أجل الكتاب والوجود، ويقرأ في الجنس القصصي من أجل ولادة نصوص متفردة مجازفة وإن بدا ارتباطها بالتوافق مع تقنيات المنظور السردي في أبعاده الدلالية أو الصورية.

رحلة الكشف في متون قصص النيلة ليست سهلة التفكيك ورصد مستغلقاتها، فهي أشرطة سردية توهم بالمواجهة المنهجية لراويها أو رواتها سواء لدى السرد من الخلف أو مع أو من الخارج، هذا المنظور السردي بتعدده ينوجد في القصص التسع عشر المذكورة، ليستقطب القاص مختلف جماليات التلقي القصصي سواء عبر آلية الرواية من الخلف في قصص للأطفال أو غيرها من مظاهر حضور الراوي من خارج نطاق الحكي للمتلقي الحاذق.  

التعليقات مغلقة.