الإنتفاضة
في “يوم السجين”، دخل عبد الحكيم سجن بولمهارز بمراكش، لا كمعتقل بل كفنان جاء طوعًا، يحمل قيثارته بين يديه، ونور الأمل في قلبه. رافق فرقتَه لإحياء أمسية فنية فريدة في ساحة صغيرة محاطة بجدران الزنازين العالية، حيث تُدفن الأحلام وتُكتم الآهات. ومع أولى نغمات الموسيقى الحالمة، بدأ كل شيء يتغير. الأجساد المقيدة التي كانت مستسلمة لقدرها، تحركت بلا وعي، والعيون التي جفت من الدموع وتيبّست كالصخور، بدأت تلمع كبصيص أمل بعيد. انتشرت الهتافات في الهواء: “أعد! أعد!”، وكان عبد الحكيم في قلب تلك اللحظة، يعزف وكأن حريته تنبض بين أوتار قيثارته. لحظة، توقفت فرقته عن العزف، تاركة إياه يعزف بمفرده على الخشبة. وحده الآن، أمام جمهور عطِش للحياة، كان يُحررهم بنغماته، يفتح أمامهم نوافذ الأمل خلف الجدران العالية… انتهى الحفل، وعادت الرتابة والهدوء إلى المكان، حيث لا يكسره إلا صوت المفاتيح الحديدية وهي تُفتح وتُغلق على الأبواب العملاقة. غادر الضيوف، وبقيت ذكريات ليلة استثنائية، تشهد أن الموسيقى يمكن أن تلامس حتى الأرواح المعذبة. لكن ما لم يتوقعه أحد أن الأوتار ستنقلب إلى أنين، وان عبد الحكيم سيعود في اليوم التالي… مكبّل اليدين، تحت حراسة مشددة! فماذا حدث؟. عاد إلى منزله منهكًا، يحمل بين ضلوعه صدى التصفيق. وقبل أن يستسلم للنوم، شقّ السكونَ صوتٌ خشن يصعد من الخارج… صوتُ ابن الجيران، وهو يصرخ في وجه والده بألفاظ نابية، لا لشيء سوى أن الأب طلب منهم الابتعاد عن عتبة البيت التي تحولت إلى وكر للسكر والصخب. لكن الشاب لم يتقبل النصيحة، بل أصر على التحدي والتهديد. من شق نافذته، رأى عبد الحكيم كل شيء. رأى الكرامة تُداس، والغضب يتفجر في صدره. وفي لحظة انكسرت فيها كل ضوابط العقل، تحرك كأن شيئًا آخر يسكنه… دخل المطبخ، أمسك بالسكين، ومضى نحو الباب… لم تمر سوى ثوانٍ حتى سقط ابن الجيران مضرجًا بدمه. 
عندما وصلت الشرطة، لم يقاوم عبد الحكيم. رفع يديه بهدوء، واستسلم للصمت. لم يتفوه بكلمة… وكأن كل ما أراد قوله، عزفه ليلة الأمس في ساحة السجن، حين كانت أوتار قيثارته تنبض بحرية لم يعرف أنها ستنقلب عليه بهذا الشكل. وحين سُئل عن سبب وجوده بين السجناء، أجاب بصوت هادئ: 
“كنت أعزف لهم أنغامًا تلامس الحرية… واليوم، بتُّ أعيش خلف القضبان مثلهم. في لحظة غضب، قد يتخذ الإنسان قرارًا يبدّل مجرى عمره. تصرفٌ واحد يتجاوز الحدود يجر عليه الويلات ، فيتركك وجهًا لوجه مع ندمٍ لا يُفارقه طول حياته..”. محمد السعيد مازغ
التعليقات مغلقة.