الانتفاضة
في أحد الأحياء العتيقة لمدينة مراكش، حيث الأزقة الضيقة تحمل رائحة التاريخ وحكايات الأجداد، وُلد مولاي عبد العزيز الطاهري. كان حي بنصالح، بألوانه الزاهية وأصواته المتناغمة، هو المكان الذي شكل في قلبه أولى بذور الإبداع.
لم يكن مجرد حي سكني، بل كان كما لو أنه مسرح حقيقي، فيه تتشابك القصص وتتناغم مع كل خطوة وابتسامة.
منذ صغره، كان الطاهري يلتقط أنفاس الفن من هواء مراكش العتيقة، يراقب الحياة بكل تفاصيلها، من لحظات الفرح في الأسواق الشعبية إلى الحكايات التي ترويها جدران البيوت القديمة.
وفي تلك اللحظات البسيطة، التي يراها البعض عادية، بدأ ينمو داخل قلبه شغف عميق بالأغنية، تلك التي تجمع بين الكلمة واللحن وتصبح صوتًا يعبر عن الحياة.
كبر مولاي عبد العزيز الطاهري، وبدأت رؤيته الفنية تتشكل أكثر.
كانت مراكش، المدينة التي نشأ فيها، تمثل له كل شيء: الإبداع، الأصالة، الحرية.
في كل زاوية من زوايا المدينة، كان يجد مصدر إلهام جديد. مع مرور الوقت، تعلم أن الفن ليس مجرد أداة للتسلية أو الهروب، بل هو رسالة يجب أن تنبع من القلب وتصل إلى الأرواح.
لكن الطاهري لم يكن يحب أن يسير في الطرق التقليدية. في زمانه، كانت الأغنية الغيوانية قد بدأت تعلو، كحركة فنية جديدة ترفض السائد، وتحتفل بالتراث الشعبي. فاستجاب الطاهري لهذا النداء، ووجد نفسه جزءًا من هذا التيار المتمرد.
كان يكتب كلمات أغانٍ حية، تحكي عن الألم والأمل، عن الحب والحرية، وعن الناس الذين ينحتون حياتهم بأيديهم في قلب الصعاب.
لكن مع كل خطوة كان يخطوها، كان الطاهري يعاند الزمن. لا يلتفت إلى الشهرة أو المال، بل كان يريد شيئًا أعمق من ذلك: أن تظل كلماته في ذاكرة الناس، أن يلامس قلب كل مستمع ويجعلهم يشعرون بشيء مختلف.
لم يكن يكتب ليتباهى، بل ليعيش في روح كل من استمع إلى أغنياته. كان يرى في الكتابة حياة جديدة، حياة يتغنى بها، ويمجد فيها الجمال في كل تفصيل صغير.
وفي مشواره الفني، لم يقتصر الطاهري على الغناء فقط، بل امتدت موهبته إلى مجال المسرح أيضًا. فقد لعب دور الفتى الأول في مسرحية الحراز مع فرقة الوفاء المراكشية، لمخرجها المرحوم عبد السلام الشرايبي، حيث أظهر موهبته في التمثيل وأثبت قدرته على تأدية الأدوار المعقدة والمليئة بالعواطف.
لم يكن هذا الدور مجرد تجربة فنية جديدة بالنسبة له، بل أضاف بُعدًا آخر إلى مسيرته الفنية الثرية، ليؤكد أنه فنان متعدد المواهب قادر على التفوق في مجالات مختلفة.
مرت السنوات، وها هو الطاهري لا يزال يسير في دروب الإبداع، لا يتوقف عن العطاء.
لم يكن يومًا يلاحق الأضواء، بل كان هو النور نفسه الذي يضيء عتمة الطريق للفنانين والمبدعين من بعده. في قلبه كان شغف الفن لا يزال حيًا، وفي يديه كانت الكلمات التي لا تموت، بل تخلد.
وفي النهاية، تعلمنا من حكاية مولاي عبد العزيز الطاهري أن الفن الحقيقي لا يتطلب البحث عن المجد، بل عن الحقيقة.
وأن المبدع الذي يسعى لإيصال صوته إلى الناس دون تفكير في المكافآت، هو من يظل اسمه حيًا في ذاكرة الأجيال.
إن الطاهري، بفضل قلبه المخلص لفنه وكلماته، يبقى نجمًا متألقًا في سماء الإبداع، يشع من مراكش إلى أقاصي الأرض، ويلامس قلوب كل من يستمع إليه.
التعليقات مغلقة.