الانتفاضة
لست من الذين يستصغرون ما تسعى الجزائر النظامية إلى التخطيط له وتنفيذه في الريف المغربي، ولا أغامر بالتقليل من جنون هذا النظام، بعد أن أثبت، على الأقل في مناسبتين مأساويتين (63و75)، أنه لن يتردد في مجاراة وساوسه المجنونة إلى حد الدم.
احتضان حركة تدعو إلى الانفصال، مهما كان حجم دُمى التنفيذ، وتوفير الشرط اللوجستي واستعداد دولتين، هما جنوب إفريقيا والموزمبيق، للمشاركة في الجريمة، ليس فعلاً مجنوناً بالمعنى النفسي والباثولوجي، بل هو مخطط سياسي.
ودولة جنوب إفريقيا، التي تجتهد كثيراً في ملف الصحراء، لا يمكن أن تخطو خطوة من باب العدوى المرضية التي تصيبها بفعل قبلة الموت مع نظام الجزائر. وهو عنصر إضافي في تقدير الموضوع من زاوية الخطر، لا من زاوية السخرية والتقليل، ولو كانت كل عناصر التحليل تفيد بالجنون الخرافي لنظام الجزائر الحالي.
الإرث قديم. والتفكير في توظيف الشمال من أجل خلق قلاقل للمغرب، عندما يتأزم تدبير الجنوب، قديم بدوره.
بالعودة إلى 19 أكتوبر من سنة 1975 نجد نص الوثيقة التي أطلع الفقيد عبد الرحيم بوعبيد الرأي العام الوطني والدولي عليها، في عز الصراع مع نظام الهواري بومدين.وهي رسالة من «مجموعة لكويرة» التابعة للبوليساريو، والتي هربت من الجزائر نحو دكار . وما يهمنا فيها الآن هو أنها تسلط الضوء على نوايا تحريك الريف المغربي والمنطقة المتوسطية المغربية لخدمة أهداف العسكر الفرانكاوي في الجنوب أيام المسيرة … وهي وثيقة تبين، حرفيا وبالملموس»، التزام بوتفليقة (وقتها وزير خارجية الجزائر ومهندس ديبلوماسيتها العدوانية) باسم حكومته، بالقيام بكل العمليات الإلهائية العسكرية والسياسية في المنطقة الشمالية والبحر الأبيض المتوسط إذا وجدت المواقع العسكرية الإسبانية نفسها في موقع مضطر»( تحت الضغط).
وإذا كان الاستعمار انتهى ودولته الإسبانية، التي كان من المفروض أن ترث عقليته قد عادت إلى رشدها وأقرت إقرارا علنيا ودوليا بحقوق المغرب في صحرائه، فإن الجزائر التي سعت في بداية الأمر إلى معاقبة إسبانيا وابتزازها، رجعت إلى المخطط الأول، وهاته المرة بمبادرة من نفسها وبحثا عن سند في القارة، بعيدا عن المنطقة، في شخص الموزمبيق وجنوب إفريقيا، باعتبار الأولى عضوا معها في مجلس الأمن والثانية حليفة في الاتحاد الإفريقي، للقيام بعمليات إلهائية سياسية، أمام تعذر القيام بها عسكريا ودبلوماسيا في الصحراء.
كان المنطقي بالنسبة للمغرب والمغرب الكبير أن تستحضر الجزائر الريف، ببحره وجغرافيته، التي كانت معبر السلاح إلى ثورتها. ولعله كان من الحكمة وحسن الأخلاق أن تتذكر أول سفينة سلاح وصلت إلى بحر الناظور، محملة بالسلاح لفائدة ثورة فاتح نونبر، فقام المقاومون المغاربة بتفريغها، ونقلوا السلاح إلى البر، كيسا كيسا وصندوقا صندوقا. بل إنهم حملوا ركاب السفينة، ممن كانوا يرافقون العتاد من قادة الثورة، على ظهورهم.. وكان من بينهم المدعو محمد بوخروبة الذي سيعرف لاحقا بالهواري بومدين (شهادة عبد الرحيم بوعبيد في تجمع أقيم بسينما «فوكس» بمدينة وجدة في يونيو 75، في الذكرى العاشرة للانقلاب ضد بومدين).. حدث العكس وصارت الجزائر الحرة وريثة الاستعمارين الفرنسي والإسباني.وقد صرنا نؤمن بأن الجزائر المستقلة لن تختلف عن الجزائر الاستعمارية، لكننا نسينا بأنها أيضا الجزائر المُحافِظة والقيِّمة على التراث الفرانكاوي، في الريف.
الاحتضان الحالي لا يمكن الاستهانة به لأسباب عديدة، نعرف بعضها وهي ما زالت قائمة وذات ثقل، وسيتبين بعضها الآخر مع توالي الأيام:
أولا، تبين بأن الجزائر ما زالت على خطها المتصاعد في العداء، وربح معركة الصحراء لن يثنيها عن تحركاتها العدوانية في مناطق أخرى من المغرب، في الشرق (أراضي العرجات بفجيج واستفزازاتها) كما في الشمال الآن..وهي تريد الإيحاء بأنها قادرة على وضع المغرب بين فكي كماشة هي من تملك خيوطها بين يديها والتوهم بأنها تحاصر المغرب.
الخطوة الحالية جاءت بعد دعم ومساندة الخطوات السابقة مع نفس المسخرين في أوروبا من أنصار ما يسمى «الحزب الوطني الريفي»، في الاحتفالية التي تمت في باريس وفي هولندا، بمناسبة تأسيس «جمهورية الريف»، والتغطية اللوجستية والإعلامية المخدومة لفائدة الغرض نفسه، في أقل من سنة.
هي خطوة تأتي بعد اتضاح تراجع الجزائر وفشلها على الجبهة الجنوبية، وبذلك فهي تسعى إلى واحد من الخيارين التاليين:
+ استعادة المبادرة بخلق جبهة ثانية وتشتيت انتباه المغرب.
+ استباق النهاية الحتمية للانفصال في الجنوب بإعداد مشروع انفصال في الشمال، والبحث عن بؤرة جديدة للتشويش على المغرب.
الخطوة الجزائرية تأتي بعد التنبيه الذي قدمه وزير الخارجية المغربي، أمام البرلمان، بمناسبة إعداد ميزانية الخارجية في قانون المالية الحالي، عند الحديث عن «سعي جزائري إلى الدخول في حرب مع المغرب»، وهو سعي قيل أمام البرلمان وتم الكشف عنه تحت القبة من طرف رئيس الديبلوماسية المغربية (انظر مقالنا “الحرب بين بوريطة، العروي.. وتبون)..
ربما فهمت الجزائر بأن إسبانيا وخروجها من المعادلة، ليس انتصارا للحق ولكن أيضا لتفاهم مشترك بين المغرب وجارته الشمالية، وأن ذلك تم بعد أن طمأن المغرب إسبانيا بأنه لا ينوي القيام بالمطالبة «بشيء آخر» مجددا في الوقت الراهن، وأن الخروج من منطق القرن العشرين (منطق الاستعمار) والدخول في القرن الواحد والعشرين يعني أولا خروج الدولة الاستعمارية من ماضيها الاستعماري. قبل خروج الدول المستعمَرة سابقا من .. نضالها من أجل استكمال وحدتها.
ولعل الالتحاق الفرنسي بهذا المنطق أخرج العسكر …. عن طوره وعقله.
ومن يدري لعله يعتبر أن جنونه هو ما يعيد المعادلة إلى أصلها وتعود إلى «عقلها» الشاذ؟
ولعله يعتبر بأن الجزائر لم تشرك في هذه التفاصيل الاستعمارية الكاملة والمغرب سيظل يطالب بأجزائه الشرقية.
ولا يمكن أن نظل نطالب المغرب بأن يتصرف بعقلانية مزدوجة أو «يدير العقل ديال جوج، عقل لمصالحه وعقل لجنون الجيران»، بل لا بد من التصرف بما يخدم مصالحه (اتفاقيات دولية تضمن تفوقنا) والعمل على التحرك لدى الدول الحاضنة لعناصر التفكير الانفصالي والممارسات الترهيبية، لا سيما بعد الدعاوي الصريحة إلى استعمال العنف المسلح وضرب مصالح المغرب وتفجير أوضاعه..
تطرح القضية مع الجيران 3 نقط أخرى على مسافة معلومة من الموضوع نفسه : قضية تعامل المغرب مع «القبايل»، وفكرة الدعوة العتيدة إلى المغرب الكبير وتحميل المغرب وحده مسؤولية بقاء الفكرة حية، وعلاقة ذلك بالعقدة إزاء النظام الملكي وخلفياتها بعيدا عن التضاد الفلسفي بين الجمهوريين الثوريين والملكيين المحافظين أو الرجعيين !
وهي مواضيع للتفكير.. غدا!
عبد الحميد جماهري، رئيس تحرير ومدير نشر يومية الاتحاد الاشتراكي
التعليقات مغلقة.