الجزائر بين متطلبات الإصلاح واحتمالات الانهيار

 

استطاع النظام الجزائري بفضل موارده النفطية الضخمة أن يتجاوز الاضطرابات التي رافقت موجة الربيع العربي، إلا أن العديد من التحدّيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أدّت إلى اندلاع الانتفاضات في دول شمال إفريقيا المجاورة لا تزال تتفاقم تحت السطح في الجزائر. إذ اعتمدت الحكومة الجزائرية على إيراداتها النفطية الكبيرة لتمويل نظام إعادة توزيع يشتري هدوء وولاء الدوائر الرئيسة المناصرة للنظام، ويترك السواد الأعظم من السكان في حالة من البؤس، وهو ما سبّب اختلالات هيكلية في الاقتصاد الجزائري، قد تحرمه في المستقبل من مزاياه النسبية.

ويبدو أن الاستياء قد عاد مجدداً إلى الشارع الجزائري، وهو الأمر الذي يمكن ملاحظته من خلال قراءة معدّلات مشاركة الناخبين في الانتخابات التشريعية التي أجريت في مايو 2012، والتي بلغت 43% فقط من الناخبين المسجّلين. ومن بين 9.4 مليون ناخب ذهبوا فعلاً إلى صناديق الاقتراع، ترك 18.3% أوراق الاقتراع فارغة احتجاجاً منهم. كما شهدت الجزائر موجة عنيفة من الاحتجاجات في مارس 2013 من قبل آلاف الشباب العاطلين عن العمل في جنوب الجزائر، مطالبين بإنهاء سياسات التهميش، والحصول على حقهم في العمل في المؤسسات النفطية. وقد تطورت تلك الاحتجاجات إلى مواجهات عنيفة مع الشرطة، أسفرت عن وفاة أحد المحتجين.
وفي هذا الإطار، قدّم الحسن عاشي، الخبير الاقتصادي في التنمية والاقتصادات المؤسسية، في دراسة له بعنوان “ثمن الاستقرار في الجزائر”، والمنشورة على مركز كارينجي للشرق الأوسط، رؤية حول تعامل النظام الجزائري مع موجة الاحتجاجات عام 2011، وكيف أن ما اتخذه من إجراءات تنطوي على مخاطر سياسية واقتصادية واجتماعية محدقة قد تجعل مستقبل الجزائر على المحك.

الظروف التي تغذّي السخط

في البداية، يستعرض الحسن الظروف التي تسبب سخطا لقطاعات عريضة من المجتمع الجزائري، والتي تجعل من الجزائر أرضا خصبة لاضطرابات مستقبلية، تتمثل في:

أولا- انتشار الفساد وانعدام الشفافية، حيث تعاني الجزائر “الفساد الكبير” في المستويات العليا من الحكم، مثل كبار الموظفين العموميين والإدارة العليا في المؤسسات المملوكة للدولة. فالقادة يستخدمون سلطتهم كي يستفيدوا على حساب الجمهور، وهناك “الفساد الصغير”، أو إساءة الاستعمال اليومية للسلطة من جانب البيروقراطيين في الإدارة المركزية والسلطات المحلية على حد سواء.

وفي مؤشر مدركات الفساد لعام 2012 ، الصادر عن مؤسسة الشفافية الدولية، والذي يصنّف الدول على أساس مدى انتشار الفساد في القطاع العام، حلّت الجزائر في المرتبة 105 من بين 176 بلداً في جميع أنحاء العالم، وفي المرتبة الثانية عشرة من بين سبعة عشر بلداً في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

ثانيا- بطالة الشباب والتهميش، حيث يواجه النظام تحدّيات خطيرة في شكل نموّ سكاني سريع، وزيادة في عدد العاطلين عن العمل من الشباب، حيث إن عدد سكان الجزائر سيتجاوز 40 مليون نسمة بحلول عام 2020. وفي حال استمرار مشكلة هؤلاء الجزائريين الشباب العاطلين دون علاج، فإنها قد تصبح مصدراً لاضطرابات محتملة خطيرة. وأكد الحسن أن الجيل الجديد (من هم دون سنّ الثلاثين) لا يثقون بالنظام السياسي مطلقاً، إذ قاطع معظمهم الانتخابات.
وهم علاوة على ذلك، ليست لديهم ذكريات شخصية عن الحرب الأهلية الجزائرية في التسعينيات، وبالتالي فإن الكوابح النفسية الحالية بشأن الدخول في مواجهة مباشرة مع الحكومة ضعيفة. كما يواجه الجزائريون الإقصاء السياسي، حيث تفتقر البلاد إلى وجود نظام سياسي مفتوح، أو منظمات مجتمع مدني فعاّلة، من شأنها ايصال معاناة المواطنين إلى الجهات المسئولة، وهو ما ترتب عليه بروز ظاهرتين توضّحان انعدام إيمان الشباب الشديد بمستقبل البلاد: زيادة معدلات الانتحار، والهجرة غير الشرعية.

ثالثا- احتدام التوتّر في الشارع الجزائري: فعندما اندلعت الاحتجاجات في الجزائر في يناير 2011، كان القرار الذي أصدرته الحكومة في فبراير 2011 ، والقاضي بإلغاء حالة الطوارئ، يهدف إلى إعادة الهدوء، وإظهار استعدادها للإصلاح. لكن وجود الشرطة في الشوارع ظل على حاله إلى حدّ كبير، واستمرّ الحظر المفروض على تنظيم المسيرات الاحتجاجية في العاصمة.كما أن اللجنة الوطنية للإصلاح السياسي، التي تم إطلاقها في مايو 2011، اقتصرت المشاركة فيها على المقرّبين من النظام الذين لا يتمتّعون بقدر كبير من المصداقية، مما جعل معظم نشطاء المعارضة يخلصون إلى أن العملية تهدف إلى كسب الوقت، وتنفيذ إصلاحات شكلية فقط.

التعامل مع الانتفاضات

يرجّح الحسن أن إفلات النظام الجزائري من ذلك النوع من الثورات، التي أطاحت بحكومات عدة أخرى في العالم العربي، ليس وليد برامج الإصلاح السياسي المبتكرة التي ربما كانت سابقة لأوانها بطريقة حاذقة، بل يرجع إلى أربعة عوامل أتاحت للنظام الجزائري الحفاظ على موقعه.

وكانت المنح السخية المباشرة للسكان هى أول تلك العوامل، حيث استخدم النظام الجزائري لفترة طويلة عائدات النفط لتمويل نظام التحويلات الاجتماعية السخيّة. وقد مكّن ذلك الحكومة من شراء ولاء قطاعات مختلفة من السكان، وشكّل أساس شرعية النظام إلى حد كبير. حيث يصب ثلثا إيرادات صادرات النفط، أو ما يقرب من ربع الناتج المحلي الإجمالي مباشرة في الخزانة الوطنية. وعندما اجتاح الغضب الشعبي البلاد، غداة اندلاع الثورات العربية الأخرى، استخدم النظام الكثير من هذه الاحتياطيات لتهدئة المواطنين الساخطين، من خلال زيادة دعم المواد الغذائية، ومنح زيادات سخيّة في الأجور لموظفي الخدمة المدنية، وتقديم دعم نقدي للمزارعين، وقروض بدون فائدة للشباب العاطلين عن العمل، وضُخّت مبالغ مالية ضخمة في مشاريع البنية التحتيّة والإسكان.

وتناول الحسن أزمة تفكّك المعارضة، بحسبانها ثاني عوامل نجاح النظام في الحفاظ على موقعه. حيث أشار إلى أن المعارضة تتسم بالتشتت، وعدم وجود تحالف قوي مؤيّد للإصلاح، وقادر على تحدّي النظام. وقد تجلى ذلك في الخلافات التكتيكية التي ظهرت داخل تحالف “التنسيقية الوطنية للتغيير الديمقراطي”، والذي تشكل في يناير 2011، وأعاقته تلك الخلافات عن أداء دور فعّال في المعارضة، بالإضافة إلى عدم قدرة الأحزاب السياسية المعارضة على حشد الناس.

وصنّف الباحث امتلاك النظام الجزائري لجهاز أمني بارع كعامل ثالث ضمن عوامل نجاح النظام في التعامل مع الانتفاضات. فخلافاً لما حدث في تونس المجاورة، واجه المتظاهرون أجهزة الأمن الجزائرية القوية والموالية والمدرّبة بشكل متطوّر على فنون السيطرة على الجمهور، والتي لديها خبرة واسعة في التعامل مع الاضطرابات الاجتماعية. وقد اعتمدت شرطة مكافحة الشغب الجزائرية على عربات مكافحة الشغب، ولم تستخدم الدبابات، أو تطلق النار على الحشود، على عكس نظيراتها في معظم البلدان الأخرى في المنطقة. كما حال تكتيكها الذي اعتمد على تقسيم المتظاهرين إلى مجموعات صغيرة دون ظهور أي شعور بالقوة ناجم عن التعبئة الجماهيرية.

ورأى أن ذكريات الحرب الأهلية الجزائرية في تسعينيات القرن الماضي هي العامل الرابع وراء عدم تطور حركة الاحتجاجات في الجزائر، حيث شهدت تلك الحرب مقتل150 ألف شخص في مجازر مروّعة، ليست ببعيدة عن أذهان الجزائريين. فقد كانت الحرب الأهلية، التي جاءت عقب ثورة سلمية شبيهة بالربيع العربي في أواخر الثمانينيات، بمثابة رادع قوي، جعل الكثير من الجزائريين يخافون من المطالبة بإجراء تغيير جذري، رغم المظالم الاقتصادية والاجتماعية التي يعانونها.

مواطن الضعف الكامنة في مقاربة الحكومة

يرى الحسن أن النظام الجزائري ربما تمكّن من تأمين نوع من الاستقرار النسبي في الوقت الحالي، بيد أنه يواجه تحدّيات وشيكة تهدّد بعرقلة هذا النجاح. وأول تلك التحديات هو: نظام إعادة التوزيع. فعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، خصّصت الدولة، في المتوسط، ما يعادل ثلث الناتج المحلي الإجمالي لقطاعات مختلفة من السكان، عبر قنوات إعادة التوزيع المختلفة، وذلك في سبيل ممارسة السيطرة السياسية والاجتماعية.

وقد كان التوظيف في القطاع العام من بين أهم قنوات إعادة التوزيع، حيث تدفع الحكومة حالياً ما يعادل 12% من الناتج المحلي الإجمالي في شكل أجور لموظفي القطاع العام. وينفق النظام الجزائري أيضاً قدراً كبيراً من عائدات النفط والغاز على الإعانات، إذ يكلّف تأمين الضروريات الأساسية الحكومة، باستثناء النفط والغاز، ما يعادل 2% من الناتج المحلي الإجمالي.

وعلاوة على ذلك، فإن الطاقة ذات الأسعار المنخفضة التي يتمتّع بها المستهلكون الجزائريون تكلّف الحكومة ما يعادل 6.6% من الناتج المحلي الإجمالي. كما سعت الحكومة الجزائرية أيضاً إلى استخدام نظام إعادة التوزيع للتخفيف من حدّة البطالة بين الشباب. ومع ذلك، فإن معظم المشاريع التي أنشئت في إطار آلية الدعم هذه صغيرة جداً، وتصارع من أجل البقاء. كما أن الوظائف التي توفّرها غير مستقرة في الكثير من الأحيان، وذات أجور زهيدة.

وتوصل الحسن إلى أن نظام إعادة التوزيع يضرّ بالآفاق الاقتصادية للجزائر على المدى الطويل، وبالتالي يزرع بذور اضطرابات اجتماعية أكثر حدّة في المستقبل.
وتناول الحسن نقاط الضعف الاقتصادية الهيكلية على أنها ثاني التحديات التي تواجه النظام الجزائري. فالجزائر تمتلك ثالث أكبر احتياطي نفطي في إفريقيا، إلا أن حجم إنتاجها من النفط والغاز قد انخفض بنسبة 20% خلال السنوات الخمس الماضية بسبب شروط التعاقد غير الجذابة التي تفرضها الحكومة على الشركات الأجنبية، كجزء من محاولة الجزائر للاحتفاظ بالسيطرة الوطنية على مواردها. وفي الوقت نفسه، ارتفع حجم الاستهلاك المحلي من النفط والغاز.

وفي هذا الصدد، أشار الباحث إلى دراسة صدرت في عام 2008 عن معهد “تشاتام هاوس”، تؤكد أنه لن يكون لدى الجزائر نفط متاح للتصدير بعد عام 2023، كما أنه من المرجّح أنه لن يكون لدى الجزائر نفط لكي تصدّره بين عامي 2018 و2020. ومن دون اكتشاف احتياطيات نفطية جديدة، قد تفقد الجزائر مكانتها كمنتج للنفط بحلول عام 2026.

وتتجلى خطورة ما سبق في كون الاقتصاد الجزائري يعد واحداً من أقل الاقتصادات تنوّعاً، إذ يسهم القطاع الزراعي بنسبة 8% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، فيما يسهم قطاع الصناعات التحويلية بنسبة 5%. وقد فاقم واضعو السياسات هذا الاتجاه أخيرا عن طريق التراجع عن سياسات التحرير الاقتصادي التي تم تنفيذها في السابق. كما أن ضعف البيئة التجارية الجزائرية، وعدم استقرار القوانين واللوائح الخاصة بالاستثمار يجعلانها إلى حدّ ما غير جذابة للمستثمرين الأجانب.

الاستنتاجات والآفاق المستقبلية

يرى الحسن أن الانتخابات الرئاسية المقررة في 2014 لن تكون نتائجها مؤثرة فى مستقبل الجزائر، إذا لم تقترن بتغييرات في عمليات اتخاذ القرارات، أو دور الجيش والأجهزة الأمنية في الحياة السياسية. وللحيلولة دون انهيار أو تغيير النظام بالقوة، فإن الجزائر بحاجة إلى إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية عميقة. ففيما يتعلق بالإصلاحات السياسية والإدارية، أكد الحسن أنه يجب معالجة تلك العوامل التي تقف وراء فشل إحداث تحوّل ذي جدوى في العملية السياسية في الجزائر، وأبرزها: هيمنة “جبهة التحرير الوطني الجزائرية” على الحياة السياسية، وعدم إيفاء القيادة السياسية بالوعود التي أطلقتها حول إجراء إصلاحات دستورية أكثر هيكلية، وإهمال القوانين الجديدة لجوانب رئيسية وحسّاسة، مثل دور الأجهزة الأمنية في الشئون السياسية، والرقابة المدنية الحقيقية على الميزانيات والأنشطة العسكرية، والإشراف المستقلّ على عائدات النفط.

أّما فيما يتعلق بالإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، فقد توصل الكاتب إلى أنه على الحكومة التركيز على تبسيط الإجراءات الإدارية المعقّدة التي تعرقل بدء الأعمال التجارية، وتحسين البنية التحتية في إطار برنامج طموح لتشجيع التنويع الاقتصادي في الجزائر. وتحتاج الحكومة أيضاً إلى إصلاح البنوك المملوكة للدولة، التي تمثّل 90% من أصول القطاع المصرفي. وفي الوقت نفسه، ينبغي توجيه الإنفاق العام المخصّص لدعم الاستهلاك المحلي من المواد الغذائية الأساسية والوقود للفقراء لضمان أن يستفيد من هذه البرامج الجزائريون الذين هم في أشدّ الحاجة إليها.

ويرى الحسن أن برامج الإصلاح المقترحة تنطوي على مخاطر سياسية حادّة قصيرة الأجل بالنسبة لأصحاب المصالح والحلفاء المقرّبين من النظام، والذين يشكّلون قاعدته الاجتماعية والسياسية، مما لا يجعل لدى حكام الجزائر حوافز مباشرة تُذكر لإطلاق هذه الإصلاحات الاقتصادية أو السياسية الجدّية.ويحذّر الباحث في النهاية من أن النظام إذا لم يبدأ بالسير في طريق الإصلاح السياسي والاقتصادي الموجّه، في الوقت الذي يمتلك فيه كماً كبيراً من ريع النفط والغاز، فسيفوت أوان الإصلاح بسرعة. وتواجه الجزائر خياراً قاسياً: إما أن تقوم بعملية الإصلاح الآن، أو تنهار في وقت لاحق.

تعريف الكاتب:
باحث أول غير مقيم في مؤسسة كارنيجى للشرق الأوسط في بيروت، وهو خبير اقتصادي في التنمية

التعليقات مغلقة.