كي نفهم قضية الهوية حق الفهم لابد أن ندرك أننا لا نتلقى الواقع في موضوعية متلقة سلبية تكتفي بالرصد والتسجيل، فالعقل الإنساني، كما أشرت، عقل توليدي يبقى ويضخم ويهمش ويضيف ويحذف، وتتم عملية الإبقاء والاستبعاد والتضخيم والتهميش والإضافة والحذف حسب نموذج إدراكي يشكل هوية الإنسان هو فى صميمه رؤية للكون. فهوية شعب ما تتشكل عبر مئات السنين من خلال تفاعله مع الطبيعة وبيئته الجغرافية ومع بني جلدته ومع الشعوب الأخرى. ولأن أعضاء هذا الشعب لا يعكسون الواقع كما هو، وإنما يتفاعلون معه (فعقولهم التوليدية تبقى وتستبعد وتضخم وتهمش)، فإن هويتهم تتشكل من خلال إدراكهم لما حولهم، ومن خلال تطلعاتهم ورؤاهم وذكرياتهم، فهى ليست مجرد انعكاس بسيط لبيئتهم. ومن هنا تكتسب الهوية فرادتها وتركيبيتها التى لا يمكن ردها إلى قانون أو نمط مادي.
ولكن عادة ما ينطلق الكثيرون من الرؤية المادية التى يسمونها “علمية”، فيدرسون الهوية في إطار النموذج المادي كما يفعل كثير من الدارسين في الغرب. واستخدام النموذج المادي يعنى استخدام الحواس الخمس، كما يعني دراسة الظواهر الإنسانية كما تدرس الظواهر الطبيعية. ومثل هذا المنهج يودي بالهوية تماماً، لأنه لا يتعامل مع الواقع إلا من خلال معايير مادية، وهي معايير عاجزة بطبيعتها عن رصد الهوية في كل تركيبيتها وفرادتها. وقد أدى هذا المنهج إلى تعريف الإنسان باعتباره “الإنسان الطبيعي”، بمعنى أنه إنسان يتسم بسمات عامة “أضيفت” إليها الحضارة، أي أنها ليست أصيلة فيه. وبذلك تتحول الهوية إلى مسألة مضافة آليا، مجرد زخرفة، وهكذا يصبح المشروع الإنساني هو العودة إلى الإنسان الطبيعي متجاوزين الزخارف الإضافية. وهذه الفكرة عبرت عن نفسها في فكر حركة الاستنارة الغربية (التى نصفها بأنها عقلانية مادية) كما تعبر عن نفسها فكر العولمة، فالعولمة هى في جوهرها العودة إلى هذا الإنسان الطبيعي، الذى لا يعرف الحدود أو الهوية أو الخصوصية وليس عنده أي إدراك أو اكتراث بالقيم الأخلاقية والمعنوية مثل الكرامة والارتباط بالأرض والوطن والتضحية. ولذا نجد أن خطاب العولمة يتحدث عن حرية انتقال السلع ورأس المال، والشركات عابرة القارات وحدود الدول، ولايذكر شيئاً عن الثقافات أو الهويات المختلفة. وحيث أن الإنسان الطبيعي هو ذاته الإنسان الاقتصادي، لذا فكل مطالبه وتطلعاته تظل داخل السقف المادي، وتظل الخلافات التى تنشأ بين الدول هى خلافات اقتصادية عامة، يمكن التفاهم بشأنها وحلها داخل الإطار الاقتصادي المادي. ونتيجة لهذا الفهم المادي المعاصر نجد أن الإدراك الغربي (والإدراك الذي ساد في العالم العربي) للهوية يتأرجح بين نقطتين ماديتين متناقضتين، الأولى نقطة صلبة تقوم على ثنائية قطبية حادة (أنا في مقابل والآخر) كما فعل النازيون والصهاينة في الغرب وبعض السلفيين والقوميين المتعصبين وبعض دعاة القومية العربية، بعض الوقت. أما الثانية فهي نقطة سائلة تذوب فيها الحدود والهويات، كما هو الحال الآن فى إطار النظام العالمي الجديد.
وأقترح أن ننظر إلى الهوية باعتبارها صورة مجازية لا جوهرا صلباً ثابتاً، وأطرح فكرة الإنسانية المشتركة بدلا من فكرة الإنسانية الواحدة التي يطرحونها في الغرب. فالإنسانية المشتركة تذهب إلى أن كل البشر داخلهم إمكانيات لا تتحقق إلا داخل الزمان والمكان، وهى فى تحققها تكتسب قسمات وهوية محددة! فالإمكانية الإنسانية الكامنة حينما تتحقق فى الزمان والمكان الصيني، فإنها تثمر الإنسان الصيني والإنسانية الصينية، وإن تحققت فى الزمان والمكان الغربيَين، أثمرت الإنسان الغربي والإنسانية الغربية. وتحقق الإمكانية ليس أمراً حتميا، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمكن أن يرقى فوق إنسانيته ويمكن أن يهبط دونها.
وثمة علاقة بين الهوية والإبداع، فالإنسان الذي لا هوية له لا يمكنه أن يبدع، لأن الإنسان لا يبدع إلا إذا نظر للعالم بمنظاره هو وليس بمنظار الآخرين، لأنه لو نظر بمنظار الآخرين، أي لو فقد هويته، وأصبح عقله فى أذنيه، فإنه سيكرر ما يقولونه ويصبح تابعا لهم، كل همه أن يقلدهم أو أن يلحق بهم، ويبدع داخل إطارهم، بحيث يتحقق إبداعه من داخل تشكيلهم الحضاري، كما يحدث لكثير من العلماء العرب الذين يهاجرون إلى الغرب. وهذا ما أدركه لورد ماكولي، السياسي والكاتب الإنجليزي. ففي خطاب له للبرلمان الإنجليزي في 2 فبراير 1835 قال: “لقد سافرت في الهند طولا وعرضا، ولم أر شخصا واحدا يتسول أو يسرق. لقد وجدت هذا البلد ثريا لدرجة كبيرة، ويتمتع أهلها بقيم أخلاقية عالية، ودرجة عالية من الرقي، حتى أنني أرى أننا لن نهزم هذه الأمة، إلا بكسر عمودها الفقري، وهو تراثها الروحي والثقافي. ولذا أقترح أن يأتي نظام تعليمي جديد ليحل محل النظام القديم، لأنه لو بدأ الهنود يعتقدون أن كل ما هو أجنبي وإنجليزي جيد وأحسن مما هو محلي، فإنهم سيفقدون احترامهم لأنفسهم وثقافتهم المحلية، وسيصبحون ما نريدهم أن يكونوا، أمة تم الهيمنة عليها تماما”.
هذه هي الخطة الشيطانية التي لا يزال الاستعمار الغربي يستخدمها ضدنا، ولذا علينا أن نحتفظ بهويتنا وندافع عنها ونفعلها ونعبر عنها من خلال أعمال إبداعية تخرج من بيئتنا وتعود إليها. فمثلا هل يمكن أن نطور مدنا لا تسير فيها سيارات خاصة، على أن نطور نظام نقل عام جيد، السيارات فيه تسير بالغاز الطبيعي، ومن ثم نقضي على التلوث بكل سلبياته، الذي يكلفنا الكثير من الناحية الصحية والاقتصادية؟ لماذا لا نطور تكنولوجيا الطاقة الشمسية ومساقط المياه، في منطقة معروف أنها ستواجه شحا في المياه، حتى أنهم يقولون إن حروب هذا القرن ستكون حروب المياه؟ لماذا لا نركز على تكنولوجيا تحلية المياه ونخلصها من مشاكلها؟ لماذا لا نطور مفاهيم جديدة في الإدارة، رجل متقدم في السن يحيط به مجموعة من الشباب الأذكياء، ولا يكون المدير هو الآمر الناهي، وإنما يستمع لمستشاريه، بحيث تصل المجموعة إلى شكل من أشكال الإجماع الذى لا يولد التوترات؟ المدير هنا لا يدير وإنما ينسق، والأطراف قوية مثل المركز. هذا ما فعله اليابانيون وطوروا اقتصادا على مستويين، فهناك الاقتصاد المتقدم والذي يستفيد بكل منجزات العلم والتكنولوجيا، ولكن هناك مستوى آخر وهو ما يمكن تسميته الاقتصاد الشعبي. فشركة مثل سوني على سبيل المثال تستخدم آخر ما توصلت له التكنولوجيا، ولكن هناك أعمال أخرى يمكن إنجازها يدويا، فترسل بها إلى الريف الياباني، فيقوم الفلاحون بإعدادها في منازلهم.
ويدعي البعض أن التمسك بالهوية يؤدي إلى الحروب والمجازر، وهذه مبالغة غير مقبولة. فهل الحربان (العالميتان)، الأولى والثانية، تمتا باسم الهوية أم باسم المصالح الاستعمارية؟ وماذا عن فيتنام وغزو العراق وأفغانستان والحرب الباردة؟ هل التشكيل الاستعماري الغربي الذى أحرق الأخضر واليابس، والذى أباد الملايين ونهب ثروات الشعوب، هل تم تعبيراً عن الهوية الغربية أم تعبيراً عن طمع وجشع الطبقات الحاكمة؟
وتفعيل الهوية شيء أساسي في عملية النهوض الحضاري، فهويتنا قد تشكلت – كما أسلفت – عبر تاريخنا حتى أصبحت منا وأصبحنا منها. فعملية التنمية لا يمكن أن تتم من خلال برنامج اقتصادي وسياسي عام، فالبشر لا يتحركون في إطار العام، وإنما يتحركون في إطار الخاص الذى يعرف احتياجاتهم ويأخذ في الاعتبار توجهاتهم وأشواقهم وأحزانهم. وأعتقد أن ظهور ما يسمى النظام العالمي الجديد والنزعة الاستهلاكية الشرسة يزيد من أهمية قضية الهوية وضرورة التمسك بها. إن ظهور الهوية في القرن العشرين مسألة لها دلالة، فهي حماية للإنسان ضد عمليات التنميط الزاحفة، وضد العولمة التي كانت توجد بشكل جنيني في بداية القرن وأصبحت الآن مسيطرة ومهيمنة. إن الهوية في الواقع شكل أساسي من أشكال المقاومة شرط ألا تتحول إلى “غيتو” يدخل فيه الإنسان ويتخندق.
هذا لا يعني أن تمسكنا بهويتنا العربية الإسلامية سيفصلنا عن الآخرين، ويمنحنا حقوقا مطلقة كما فعلوا في ألمانيا النازية وفي التشكيل الاستعماري الغربي. الهوية العربية الإسلامية هي مجموعة من السمات الإنسانية المختلفة التي قد تسم جماعات إنسانية أخرى، ولكنها توجد بشكل معين وبترتيب محدد يعطي الهوية العربية فرادتها. ففي الدولة الإسلامية مثلا كان يوجد هويات مختلفة، لكن رغم ذلك كانت غير متنازعة. كان يمكن للإنسان أن يأتي من خراسان إلى مصر فيرحب به، وكذلك أهل المغرب الذين وجدوا في مصر وطناً لهم من دون أي مشكلة. ولعل الفن الإسلامي هو أكبر دليل على التنوع والاختلاف لدرجة أن بعض المؤرخين الغربيين ينفون وجود فن إسلامي بسبب تنوعه، وفي الواقع هناك فن إسلامي هندي، وإسلامي عربي الذي ينقسم بدوره إلى إسلامي مصري (فاطمي وأيوبي ومملوكي) وإسلامي دمشقي وهكذا.
الإسلام قد قبل التنوع داخل إطار شامل من الوحدة، وحدة ليست عضوية، وإنما فضفاضة، وهو تنوع قد سمح للجماعات الدينية والإثنية المختلفة بأن تبدع من خلاله مثل إبداع الأكراد وإبداع العرب المسيحيين واليهود. وقد كان هذا النموذج للهوية مرفوضا من الغرب حتى عهد قريب، لأن التعريف الغربي للهوية كان تعريفا عضويا، أي يرى الهوية باعتبارها كيانا متماسكا تماما وكأنها النبات أو الحيوان أو كيان عضوي، لا يمكن أن تفصل أجزءا منه ويكتب له البقاء. أذكر أنني عندما كنت في الولايات المتحدة في الستينيات: كانوا دائماً يسألونني هل أنت عربي أم مصري أم مسلم، ويشيرون إلى هذا باعتباره اختلاطا في الهوية، ومن ثم نقطة سلبية. فكنت أشير إلى جون ميلتون الشاعر الإنكليزي الذي عاش في عصر النهضة، وكان يكتب بالإنكليزية واللاتينية ويعد نفسه إنكليزيا وأوروبيا ومسيحيا في الوقت ذاته، وكان يتحدث باللاتينية مثلا مع أصدقائه حين ينتقل في أرجاء أوروبا. وكانت تواريخ الأدب ترى هذا دليلا على عظمة عصر النهضة الغربية، فكنت أقول لهم أنا أيضا دمنهوري عربي مسلم، وفي بداية الأمر ونهايته إنسان، فإنسانيتي العامة المشتركة لا تتناقض مع انتماءاتي المتعددة. إن الرؤية الغربية الحديثة رؤية مادية عضوية مصمتة، تجعل الإنسان صاحب الهوية الذي يعيش على أرضه القومية ومجاله الحيوي، موضع الحلول ومرجعية ذاته، ولذا لا يمكن استئناف أحكامه، ثم فرضوا هذه الرؤية على الواقع بالقوة. فظهرت فكرة الدولة القومية العضوية وكل هذه المفاهيم العنصرية. وقد أدى هذا إلى أن الحدود الديموجرافية والدينية والسكانية لهذه الدولة العضوية تماثلت مع الحدود الجغرافية، وبالتالي تم القضاء على معظم الأقليات. فالثورة الفرنسية قضت على كثير من الأقليات، وعلى مجموعة من اللهجات، مثل لهجة “الأوكستانيان و”البريتون”. وهذه صفة في أوربا منذ القدم.
وأذهب إلى أن أهم تفعيل للهوية في التاريخ العربي الحديث هو الانتفاضة الفلسطينية التي استدرجت “الإسرائيليين” إلى أرضية غير حديثة يصعب على الجندي “الإسرائيلي” أن يتعامل معها بكفاءة، ولم يجد الصهاينة حلا لهذه الورطة إلا بالالتفاف حول الانتفاضة لكبح جماحها، ومن هنا كانت اتفاقية أسلو. وهناك محاولات أخرى لتفعيل الهوية مثل قيام الدكتور حامد الموصلي بعدة مشاريع ناجحة نابعة من تفعيل الهوية، مثل صنع الخشب من سعف النخيل. وهناك محاولات الدكتور عبد الحليم إبراهيم وراسم بدران لتطوير معمار إسلامي حديث. كما يمكننا تفعيل مؤسسات وسيطة مثل الأسرة والجيرة، بحيث يمكن إدارة مجتمعنا بطريقة إنسانية.
السابق بوست
القادم بوست
التعليقات مغلقة.