يشهد العالم منذ سنوات ثورة تكنولوجية شملت كافة الميادين و المجالات و منها القضاء، حيث عملت مجموعة من الدول و منها بلادنا على مواكبة هذه التطورات و المستجدات من خلال استغلال الوسائل و التكنولوجيات الحديثة لتطوير مرفق العدالة، و في هذا الإطار نص صاحب الجلالة الملك محمد السادس في الرسالة التي وجهها إلى المشاركين في الدورة الثانية للمؤتمر الدولي للعدالة بمراكش تحت شعار العدالة و الاستثمار التحديات و الرهانات يوم 21 أكتوبر 2019، و جاء في السياق، ندعو لاستثمار ما توفره الوسائل التكنولوجية الحديثة من إمكانيات لنشر المعلومة القانونية و القضائية، و تبني خيار تعزيز و تعميم لا مادية الإجراءات و المساطر القانونية و القضائية و التقاضي عن بعد، باعتبارها وسائل فعالة تسهم في تحقيق السرعة و النجاعة و ذلك انسجاما مع متطلبات المال و الأعمال مع الحرص على تقعيدها قانونيا، و انخراط كل مكونات منظومة العدالة في ورش التحول الرقمي.
فرضت جائحة كوفيد 19 إجراءات حجر صحي صارمة، تمنع الناس من مغادرة بيوتهم و ممارسة أنشطتهم العادية، بما فيها ممارسة حق التقاضي، حيث تم إغلاق المحاكم و اضطر القضاة و الموظفون و المحامون إلى الانقطاع عن مكاتبهم وترك مهامهم و توقفت الممارسة القضائية مما أدى إلى ظهور إشكاليات متعددة على مستوى ممارسة الحقوق و الحريات، و نتيجة لظهور بعض بؤر الوباء ببعض السجون أصبح لزاما إغلاقها و منع نقل السجناء إلى المحاكم تلافيا لانتشار العدوى داخل المؤسسات السجنية، و هو ما كان يتطلب إيجاد حلول لقضايا المعتقلين، و كانت المحاكمة عن بعد هو الحل المشترك الذي اعتمدته السلطة القضائية مع الوزارة المكلفة بالعدل و المندوبية العامة لإدارة السجون و أعادة الإدماج و بدعم من هيئات الدفاع، ممثلة في جمعية هيئات المحامين بالمغرب حيث تم الشروع في إجراء محاكمة المعتقلين عن طريق المناظرة المرئية عن بعد، دون نقلهم من السجون إلى قاعات المحاكم.
يقصد بالمحاكمة عن بعد، استعمال الوسائل التقنية الحديثة لإجراء محاكمة قضائية بين أطراف لا يجمعهم حيز مكاني واحد، حيث تجرى المحاكمة من خلال تقنية الاتصال عن بعد ، أي بمعنى محادثة مسموعة و مرئية بين الهيئة القضائية وأحد أطراف الدعوى و المحامي لضمان التواصل المباشر رغم التواجد في أماكن مختلفة و متباعدة.
فالمحاكمة الزجرية عبر وسائل الاتصال الحديثة تتميز عن المحاكمة العادية أو الكلاسيكية لكون الحضور الشخصي لا يكون ماديا لأحد أطراف الدعوى سواء المتهم أو الضحية أو الشاهد أو الخبير أو غيره و إنما يتحقق دلك من خلال المشاركة عبر تقنيات الاتصال عن بعد، فمبدأ الحضورية في هذا النوع من المحاكمات يتحقق من خلال الحضور المرئي للشخص دون حضوره شخصيا.
يرى توجه بأن المحاكمة عن بعد في الميدان الجنائي تزداد أهميتها في الظروف غير المتوقعة كتلك التي نعيشها في أيامنا هاته بسبب انتشار وباء كورونا و ما ترتب عنه من تحديات جعلت من المحاكمة الحضورية تهديدا للصحة العامة، و أنها تحقق عدة مزايا من بينها ربح الوقت و الجهد و تفادي مخاطر التنقل، و ترشيد النفقات المادية المرتبطة بنقل الاف المعتقلين حيث تكلف خزينة الدولة يوميا مبالغ مهمة.
و في المقابل يرى توجه أخر خاصة المحامون بأن المحاكمة عن بعد تتعارض مع ضمانات المحاكمة العادلة و مع حقوق الدفاع و أثيرت في هذا الصدد تساؤلات حول شرعية المحاكمة عن بعد.
تكمن أهمية موضوع المحاكمة عن بعد في الميدان الجنائي في أهمية علمية و عملية مهنية باعتبار أن هذا الموضوع كان محل نقاش جدي بين مختلف مكونات منظومة العدالة نظرا للإشكاليات العملية التي ترتبت عن المحاكمة عن بعد، و يتعلق بهذا الموضوع سؤال محوري : هل تقنية المحاكمة الزجرية عن بعد تتعارض مع مبادئ و حقوق الدفاع المتعارف عليها دوليا؟
و يتعلق بهذا السؤال المحوري الأسئلة الفرعية التالية:
1- ما هو السند القانوني لاعتماد تقنية المحاكمة الزجرية عن بعد ؟
2- هل هذه التقنية تتعارض مع قواعد المحاكمة العادلة ؟
3- هل حالة الطوارئ و الظرفية الوبائية تبرر اللجوء إلى هذه التقنية لمحاكمة السجناء عن بعد ؟
4- هل هذه المحاكمات تساير مبادئ حقوق الإنسان و ما أملته المواثيق و الاتفاقيات الدولية ؟
5- هل المحاكمة عن بعد تضمن أليات الحضورية و العلانية في المحاكمة ؟
6-كيف يمكن للقاضي الجنائي أن يحكم حسب اقتناعه الصميم في ظل محاكمة عن بعد ؟
7- هل هذه المحاكمة تتوقف على إذن كتابي أو شفوي أو موافقة صريحة من أطراف الخصومة الجنائية ؟
8 هل الموافقة الصريحة لأحد الأطراف الجنائية دون الأطراف الأخرى تجيز المحاكمة عن بعد ؟
و سنحاول الإجابة عن كل الأسئلة المطروحة من خلال اعتماد المحاور التالية:
أولا : التأطير القانوني و التشريعي للمحاكمة الزجرية عن بعد
ثانيا: المحاكمة الزجرية عن بعد و مبدأ الشرعية الإجرائية
ثالثا: المحاكمة عن بعد و ضمانات المحاكمة العادلة
أولا: التأطير القانوني و التشريعي للمحاكمة الزجرية عن بعد
تجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد ضمن التشريع الجنائي ببلادنا أية نصوص إجرائية سواء في قانون المسطرة الجنائية أو سواء ضمن مجموعة القوانين الجنائية ما يوثق و يؤطر لاستعمال تقنية المحاكمة عن بعد.
كما تجدر الإشارة أيضا إلى أن مشروع قانون المسطرة الجنائية جاء بمجموعة من المقتضيات القانونية المؤطرة للمحاكمة عن بعد في الميدان الجنائي، من بينها المادة 4-374 التي نصت على: ” إمكانية لجوء المحكمة تلقائيا أو بناء على ملتمس النيابة العامة أو الاطراف أو من ينوب عنهم لتقنية الاتصال عن بعد في اجراء المحاكمة و ذلك اذا كانت هناك أسباب جدية تحول دون حضور المتهم او الضحية او الشاهد او الخبير او المطالب بالحق المدني لبعدهم عن المكان الذي تجري فيه المحاكمة”. و هي نفس الامكانية التي تتيحها المادة 1-193 لقاضي التحقيق إذا ما قرر الاستماع للمتهم او مواجهته مع الغير عبر استعمال تقنية الاتصال عن بعد.
بغض النظر عن غياب النص التشريعي الذي يؤطر المحاكمة عن بعد، إلا و أنه احساسا بما تمليه الظرفية الوبائية المؤقتة لبى المحامون نداء رسالة الدفاع النبيلة و المشاركة في هذه التجربة.
ثانيا: المحاكمة الزجرية عن بعد و مبدأ الشرعية الإجرائية
إن الشرعية الاجرائية هي القاعدة الثانية من قواعد الشرعية الجنائية و هي تشترط مع باقي حلقاتها في اشتراط أن يكون القانون هو المصدر لكل إجراء يسمح بالمساس بالحرية او انتهاك الحقوق ، فلا يجوز القيام بأي اجراء ضد المتهم أو إخضاعه لأي إجراء من إجراءات المحاكمة لم يكن منصوصا عليه في قانون المسطرة الجنائية.
و يترتب عن مبدأ قانونية الاجراءات الجنائية أن المشرع هو المختص وحده بتحديد قواعد المسطرة الجنائية و تعمل السلطة القضائية على تطبيق ذلك في أطار مبدأ فصل السلط المنصوص عليه دستوريا، و أي اجراء اتخذه القاضي دون أن يكون مرتكزا على أساس قانوني يكون جزاءه البطلان.
تأسيسا على ما سبق ذكره و مناقشته نستنتج بأن المحاكمة عن بعد في الميدان الجنائي تتعارض مع مبدأ الشرعية الاجرائية.
ثالثا: المحاكمة عن بعد و ضمانات المحاكمة العادلة
تنص المادة 14 من العهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية و السياسية صراحة على الحقوق الأساسية للمتهم و على شروط الحق في المحاكمة العادلة و هي الاتفاقية التي صادق عليها المغرب بحيث ينص الفصل 120 من الدستور المغربي على حق أي متقاضي في محاكمة عادلة، تضمن فيها حقوق الدفاع، و من بين اجراءات المحاكمة العادلة أن يكون المتهم حاضرا بقاعة المحاكمة و في جلسة علنية.
إن المحاكمة الزجرية عن بعد تتعارض مع حقوق الدفاع و اجراءات المحاكمة العادلة و يتمثل ذلك في:
1 خرق مبدأ الحضورية و التواجهية الشفهية: هذا المبدأ كرسه قانون المسطرة الجنائية في ديباجته التي جاء فيها أن أول مبدأ من المبادئ التي تم الحرص على اقرارها في هذا القانون، هو أن تكون المسطرة الجنائية منصفة و حضورية و حافظة لتوازن حقوق الاطراف، كما كرست نفس المبدأ عدة نصوص أخرى متفرقة من قانون المسطرة الجنائية أهمها المواد 311، 312، 313، 314، و المادة 287 و المادتان 385 و 386 و يترتب عن هذا المبدأ حضور المتهم شخصيا الى جلسة محاكمته و المشاركة المباشرة و الفعلية في مناقشة قضيته بمعية دفاعه و التعقيب على وسائل دفاع الخصم و الاطلاع على ما يدلى به من وثائق و ابداء نظره فيها.
2 خرق مبدأ العلنية: إن المحاكمة عن بعد تمس بهذا المبدأ نظرا لعدم حضور الجمهور و حتى في حالة حضورهم فإن العلنية تكون غير متوفرة و غير كاملة.
فحتى الحضورية إن كانت عبر الصورة و الصوت فهي غير مكتملة لأن هيئة المحكمة صعب عليها ان تساير اجراءات استجواب و استفسار المتهم من مكان وجوده بالمؤسسة السجنية لضعف وجود أنترنيت ذا سرعة عالية، و ميكروفونات و سماعات دات جودة عالية و كاميرات الويب سهلة التنقل دون تعطل، كما امكانية اجراء محاكمة عن بعد تتوقف على موافقة صريحة للمتهم و لكافة أطراف الدعوى الجنائية في استعمال هذه التقنية، و هو اجراء كذلك محل مناقشة قانونية من حيث أن وجود المتهم بالمؤسسة السجنية بعدم ارادته فقد يوافق على التقنية عبثا دون ادنى معرفة بها و بحقوقه القانونية، و دون ان يكون له محام للتخابر معه بشأنها.
في خضم هذا النقاش القانوني الذي أثير حول مدى صحة اجراءات المحاكمة الزجرية عن بعد من عدمها و مدى سلامتها من الناحية القانونية بعد استحضار كل من البعد القانوني و البعد الحقوقي و كذا البعد التقني و الواقعي و استحضارا للأمن الصحي، يطرح السؤال العريض التالي: هل المحاكمة الزجرية عن بعد لها تأثير و أثر على السلطة التقديرية للقاضي الجنائي؟ بمعنى هل لها تأثير على الإقتناع الصميم الذي اشترطته المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية التي تنص على : ” و يحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم ….. و يجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقتناع القاضي”.
من هنا لابد من الوقوف على معنى الاقتناع و معنى الصميم، فالأول في الفقه الجنائي يعني أن للقاضي الجنائي مطلق الحرية في قبول جميع الأدلة التي يقدر جدواها لتكوين قناعته و استبعاد اي دليل لا يطمئن اليه. أما الصميم فيعني ان القاضي الجنائي غير مقيد بوسائل اثبات دون الاخرى في الادلة المعروضة عليه، و عليه نجد ان القاضي الجنائي يبحث في الادلة و القرائن و الوسائل و يأخذ بما اطمأن اليه وجدانه و قلبه و بصفة خالصة و عميقة و هو احساس ذاتي داخلي لا يصل اليه القاضي الجنائي الا في إطار محاكمة حضورية للمتهم و باقي أطراف الخصومة الجنائية.
كما أنه لاشك في أن تمكين المتهم من حضور محاكمة عن قرب دور كبير في طمأنته و يشكل ضمانه هامة له تساعد القاضي الجنائي من ملامسة وقائع القضية من خلال حركات المتهم و انفعالاته و طريقة اجابته و تصرفات جسده و ملامح سرده، و أنه أثناء مواجهته سواء بمعطيات القضية من محجوزات و شهود سيساهم في تعميق القاضي الجنائي و دراسة كل العوامل النفسية و البيئية للمتهم لتكوين قناعته الوجدانية، من خلال عملية سلوكية احساسية ، تلتقي فيها المعرفة و الإدراك من جهة و الاحساس و الشعور من جهة ثانية لاتخاذ المقرر الجنائي المناسب، فالتواجهية وسيلة و غاية في ان واحد تمكن القاضي الجنائي من التوصل الى قناعة سليمة لا تتأتى الا بحضور المتهم جسدا و ذاتا و ليس في شكل صورة و صوت عبر وسائل الاتصال.
خلاصة
نخلص بناء على كل ما سبق بأن المحاكمة الزجرية عن بعد هي محاكمة تعتريها صعوبات لوجستيكية تقنية و أخرى بشرية فرضتها حالة الطوارئ، و تبقى تجربة تبررها الظرفية الوبائية و مقاربة الأمن الصحي و إعمالا للقاعدة الفقهية ” الضرورات تبيح المحظورات” لكن في المقابل حسب رأيي البسيط ، فإنه يجب التصدي لكل المقتضيات القانونية المؤطرة للمحاكمة عن بعد عبر وسائل الاتصال التي جاء بها مشروع قانون المسطرة الجنائية، فإن كانت حالة الضرورة فرضت المحاكمة عن بعد ، فإنه لا يعقل أن يستمر العمل بها في الحالة الطبيعية اي بعد انتهاء الوباء، نظرا لما سيترتب عن ذلك عدة اشكالات سيصعب تجاوزها و ستشكل مسا خطيرا بالمحاكمة العادلة و بحقوق الدفاع.
و نختم هذا العرض البسيط بقرار حديث للمجلس الدستوري الفرنسي قضى بعدم دستورية المحاكمة عن بعد ، و من حيثيات القرار : إن كان التطور يقضي بوجوب رقمنة المحكمة و المحاكمات، فلا يجب أن يكون على حساب الحق في الحضور الفعلي و الحق في الرد في أطوار المحكمة، و إذا كان الأمر لا يختلف لدى هيئة الحكم، فالأمر غير ذلك عند المتابع و دفاعه.
التعليقات مغلقة.