بعد نصف قرن من ولادتها في القدس يوم الثامن والعشرين من مايو 1964، ما زالت منظمة التحرير تمثل حاجة فلسطينية ملحّة. فالمنظمة هي التي تفاوض إسرائيل حاليا وليس الحكومة الفلسطينية… هذا إذا بقي من مجال لمفاوضات.
أعلن عن قيام منظمة التحرير من القدس التي لم تكن محتلة وقتذاك. وتبدو قصة منظمة التحرير الفلسطينية، التي بدأت مع أحمد الشقيري، قصّة رجل اسمه ياسر عرفات أكثر من أيّ شيء آخر. إنّها قصة ذات جوانب مضيئة في بعض الأحيان، كما لها وجه من المآسي في أحيان كثيرة أخرى. من بين تلك المآسي الاضطرار في مراحل معيّنة إلى السير في ركاب أنظمة عربية معيّنة، فضلا عن الخطأ الجسيم، الذي يمكن وصفه بالجريمة، والمتمثل في عدم الوقوف مع الكويت وشعبها لدى حصول الغزو العراقي المشؤوم صيف 1990.
تروي قصة المنظمة تقدّم القضية الفلسطينية وتراجعها في الوقت ذاته. كذلك، يختزل نصف قرن من تاريخ منظمة التحرير حجم التراجع العربي الذي تسبّبت به هزيمة يونيو 1967، وهي هزيمة لا يزال الشرق الأوسط يعاني من نتائجها إلى يومنا هذا.
بدأ كلّ شيء بالقدس وانتهى الفلسطينيون وهم يحاولون العودة إلى القدس وجعلها عاصمة لدولة موجودة على الخريطة السياسية للشرق الأوسط، لكنّها غائبة عن خريطته بالمعنى الجغرافي للكلمة.
الأهمّ من ذلك كلّه، أن منظمة التحرير الفلسطينية التي تولّى ياسر عرفات السيطرة عليها تدريجيا ابتداء من عام 1969، تكشف كيف تاجر بعض العرب بالقضية الفلسطينية، قبل عام 1967 وبعده وصولا إلى ارتكاب كلّ الخطايا الممكن ارتكابها من منطلق تجاهل ما يمكن اعتباره أبسط المفاهيم السياسية.
يتمثل هذا المفهوم في استيعاب موازين القوى على أرض الواقع بدل التحدث عن موازين غير قائمة فعلا والبناء عليها. هذا المفهوم هو الذي دفع إلى رفض قرار التقسيم في 1947 وهو الذي أخذ العرب إلى هزيمة 1967 وضياع القدس والضفّة الغربية والجولان وسيناء. ولولا شجاعة رجل اسمه أنور السادات، لكانت سيناء بنفطها وغازها ومواردها السياحية لا تزال ضائعة إلى اليوم… ولكانت قناة السويس مقفلة إلى الآن.
هل تعلّم العرب شيئا من سلسلة الهزائم والنكبات التي تعرّضوا إليها؟ هل تعلّموا شيئا من هزيمة 1967 تحديدا؟ وهي هزيمة كان يفترض أن تجعلهم يعيدون النظر في كلّ شيء، بدل السعي إلى الهروب نحو الأردن في البداية، ثمّ إلى لبنان الذي صار ضحية الجهل العربي. يقوم الجهل العربي على رفض المحافظة على الإيجابيات الناتجة عن الوضع القائم من جهة، والتمسك بالمفهوم الخاطئ لحقيقة ما هو عليه ميزان القوى العسكري وغير العسكري من جهة أخرى.
المؤسف أن مسيرة منظمة التحرير الفلسطينية تروي قصّة مأساة اسمها المتاجرة بالشعب الفلسطيني وقضيّته خدمة للمشروع التوسّعي الإسرائيلي في نهاية المطاف.
ما الذي كان يمكن أن يجنيه الفلسطينيون من وجودهم المسلّح في الأردن ومن تدمير المملكة الأردنية الهاشمية ومؤسساتها؟ ماذا كان حلّ بالأردن لولا الملك حسين، رحمه الله، الذي حاول حماية القدس وحماية الفلسطينيين أنفسهم من المتاجرين بهم برضاهم؟ قلائل هم الفلسطينيون الذين هم على استعداد للتعلّم من تجارب الماضي القريب، ومن درس لبنان مثلا. استخدم النظام السوري منظمة التحرير الفلسطينية لتدمير لبنان والسيطرة عليه طوال ثلاثين عاما. ماذا جنى الفلسطينيون من القتال في شوارع بيروت وأزقتها؟ كيف كان يمكن لهم السماح للنظام السوري بارتكاب كلّ المجازر التي ارتكبها في حق المسيحيين اللبنانيين، الذين لم يمتلكوا في مرحلة معيّنة قيادات في مستوى الأحداث الدائرة في الشرق الأوسط؟
كانت القيادات المسيحية في معظمها، عاجزة عن استيعاب ما يدور في المنطقة ومخاطر الدخول في لعبة الميليشيات الحزبية المنتمية إلى الطوائف والتي كان النظام السوري يشجّع على قيامها. كيف كان يمكن للفلسطينيين في لبنان الدخول في هذه اللعبة بدورهم، وأن تكون منظمة التحرير الفلسطينية غطاء لعصابات البعث السوري أو البعث العراقي أو لمجموعات تابعة لمعمّر القذّافي؟
كيف كان في استطاعة ياسر عرفات السكوت عن المجازر التي ذهب ضحيتها مسيحيو الأطراف في البداية، ثم المسيحيون المقيمون في بيروت الغربية، مرورا طبعا بالدامور وكلّ مدينة لبنانية فيها عيش مشترك، من طرابلس، إلى صيدا، إلى بعلبك…
لم تكن منظمة التحرير الفلسطينية في أيّ وقت من الأوقات سوى وسيلة تستخدم لضرب هذا البلد العربي أو ذاك. كان ياسر عرفات يفكّر في جني أرباح سياسية من الحرب الدائرة في لبنان وغير لبنان، في حين كان، في واقع الحال، يخدم عدوّه اللدود، أي حافظ الأسد الذي رفع دائما شعارا يقول إنّ “القرار الفلسطيني المستقلّ بدعة”.
لم يرفع «أبو عمّار» صوته عاليا عندما كان أحمد جبريل، يدمّر باسم فلسطين فنادق بيروت واحدا بعد الآخر، إرضاء لرغبة حافظ الأسد بالانتقام من كلّ نجاح لبناني… لم يحم الدامور عندما هاجمها النظام السوري عبر فلسطينيي «الصاعقة» التي كانت تمتلك ممثّلا لها في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية.
لا حاجة إلى استعادة حرب لبنان في صيف 1982 ولا إلى مرحلة تونس، ولا إلى إعلان الدولة المستقلة في 1988 والاعتراف بالقرار 242 ولا إلى “انتفاضة الحجارة” التي أظهرت أن الشعب الفلسطيني شعب عظيم… ولا إلى اتفاق أوسلو الذي يظلّ، رغم نواقصه الكثيرة، اتفاقا شجاعا.
ما يمكن التوقف عنده، بعد نصف قرن على قيام منظمة التحرير الفلسطينية، هو كيف نتفادى أخطاء الماضي. ففي سنة 1974، اعترف العرب، نكاية بالأردن، بمنظمة التحرير الفلسطينية “ممثّلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني”. وبدل البناء على ذلك، حصل التركيز على لبنان وكيفية تدميره. فاستخدم النظام السوري منظّمة التحرير الفلسطينية أفضل استخدام. كان همّه، ولا يزال، القضاء على الصيغة اللبنانية. ولذلك اعتمد بعد عام 1982 على ميليشيا مذهبية اسمها “حزب الله” بغية تحقيق أهدافه التي تبيّن أنها مجرّد أوهام. الدليل أنّ حقده على لبنان وحرصه على إقامة “حلف الأقلّيات” ما لبثا أن ارتدّا عليه داخل سوريا نفسها. في المرحلة الراهنة، ثمّت حديث عن تطوير منظمة التحرير الفلسطينية. ما الهدف من ذلك؟ هل الهدف تعطيل القرار الفلسطيني المستقلّ عبر إدخال «حماس» شريكا في هذا القرار خدمة لإيران؟
بعد نصف قرن على قيام منظمة التحرير الفلسطينية، ثمة درس وحيد يمكن الاستفادة منه، في حال كان من المطلوب ولادة الدولة الفلسطينية المستقلة في يوم من الأيّام. فحوى الدرس أنّ لا شيء ينقذ الفلسطينيين سوى القرار المستقلّ، وأن الوحدة الوطنية أكانت مع «حماس» أو مع تلك المنظمات التابعة للأنظمة العربية، أو بقايا ما يسمّى هذه الجبهة اليسارية أو تلك، لا معنى لها. فهل يكرّر الفلسطينيون في 2014 الأخطاء التي ارتكبوها طوال نصف قرن؟
خيرالله خيرالله
التعليقات مغلقة.