الانتفاضة // عبدالرحيم مركزو // السودان
القطاطي و الرواكيبُ و السويباتُ، تحيطها أسوار من القشِ، الحيشانُ من القشِ و القصبِ من الداخلِ مثبتة على العيدانِ محزّمة بالمطارقِ مربوطة بلحاءِ الخروم… تتشابه البيوت – قسمات الوجوه- ألوان البشرة…
جيراننا هم أعمامنا – عماتنا – أخوالنا – خلاتنا. المساكنُ و المنازلُ و البيوت القريبة من السوقِ يسكنها التجّار من أهلِ الشمالِ “دناقلة، شايقية، جعليين و بشاريين”،الفريق و الملكية خليط من الكواليبِ و العياتقةِ و نفر من الزغاوةِ “…
غالبية الناس من أهل البلدِ يسكنون بعيداً عن مركز الحضر دلامي” كالقي ” كما يحلو الاسم لغير الكواليب. الكواليب قراهم كثيرة متناثرة في شتى بقاع أرضهم، فهي بالقربِ من جبالٍ صغيرةٍ أو جبيلاتٍ أو تلال تسمى باسم الجد الأكبر للأُسرةِ” حلة فلان”، و الجدُ الأكبرُ له أكثر من زوجةٍ و قليلٍ من له زوجة واحدة. كل الرجال متزوجون لا يهم من المرأةِ المالِ و الجمالِ فقط المطلوب المساعدة في المزارعِ و رعايةِ الأولاد. الجد الأكبر له البنين والبنات يقيمون معاً في أكواخٍ داخل منزله، المتزوجون من البنين ، وإخوانه يقيمون في نفسِ المكانِ يباعد بينهم السكن قليلاً حول الجبيل”الحلة” …
قديماً من يتركِ القريةِ و يهاجر من الرجالِ إلا مضطراً لحادثِ القتل العمد، لأن العرف السائد يحرّم الأكل و الشرب معه… كثيرون هاجروا و لكنهم لم يغادروا خارج أرض القبيلة ،هم باقون و متعايشون مع من هاجروا إليهم.
يشاركون العشيرة في الأفراحِ و الأتراحِ و أعيادِ الأسبار “التذوق و الحصاد”، و لكنهم يعودون من حيث أتوا بعد إنفضاض سامر الملم كرهاً كان أم مسرةً…
العرف يلزمهم بالبقاءِ خارج سكن العشيرة لأن الإعتقاد السائد بين الناس أن من يعاشرهم و يشاركوهم في الأكلِ و الشرابِ يصاب بمرضِ الجذامِ… هاجروا و لم يعودوا…
سويت ديارهم و مساكنهم بالأرضِ بفعلِ عامل التربة و إنجراف الأرض…
قليلٌ من المعلوماتِ عن حركةِ التمرد تأتينا من أخبارٍ كنا نسمعها من راديو “هنا إذاعة الجيش الشعبي صوت نضال الشعب المسلح” تبثُ من نيو سايد على الموجةِ المتوسطة، تذيع أخبار معارك النصر على قواتِ الشعب المسلحة في ادغالِ الإستوائيةِ،يزاع اسم الضابط المنفذ للعمليةِ و اسماء الجنود المشاركين في المعركةِ…
تحركات الجيش الشعبي و هجماته على حامياتِ الجيش تأتينا من خلالِ الكلامِ المنقولِ بين الناسِ “قالوا يوسف كوة هجم القردود و الحمرة”…
شاهدتُ مصابو لغم أرضي من الجيش تعرضتَ له عربة لوري “اوستن” كانت تقلهم في طريقهم من عبري إلى قريةِ نكر، بعد ما طلب مننا قائد الحامية برتبة ملازم ثان معاينتهم في سكنةٍ للجيش في بلدةِ عبري.
كنا في رحلةِ عملٍ لتركيب مضخات مياه ضمن مشروع منظمة اليونسيق، كان ذلك في رمضانِ عام 1989م…
في رشاش سنة 1989م وصلنّ إلى دلامي صباحاً نساء بلا ثيابِ من أم برمبيطةِ “١٢”كلم شرق دلامي.روينّ للناس في دلامي من قابلهنّ أن نجمةً سقطت في أم برمبيطة ليلاً و أحدثتَ دوي إنفجارٍ قوي، أضاءت السماء، تأوّل الكلامُ و تناقل، قالوا إنها دانةً جاءت من إتجاهِ الجنوبِ انطلقت من حركةِ الأنيانيا، عندما عم الخبرُ و تفشى بين الناسِ في دلامي، هرع الناسُ فزعين خارج البلدة، راجلين و راكبين، نساءٌ و أطفالٌ و الخائفين من الرجالِ.
أُسر الجلابة التجار تم إجلائهم بواسطةِ لوري “اوستن 9 ب ح” يخص أولاد التاجر عثمان السيد باتوا ليلتهم تلك تحت شجرةِ تبلدي كبيرة في طريقِ كرتالا…
في مساءِ اليومِ التالي عاد الناسُ جميعهم… كنتُ أنا و أمي نجلس مساءً تحت ظلِ الراكوبةِ نعاين بعين السخرية للعائدين من الخلاءِ الهاربين من الشهابِ الراصدِ للشياطين. لم نهربْ من دلاميِ مع الخائفين، بل بقينا مع رهط من الناس…
بقينا نراقبُ عن كثبٍ و حذرٍ أخبار الحرب، و كما نسمعُ كل صباح باكر دوي انفجارات مدافع الهاون في حاميةِ عبري “30”ميل جنوب دلامي، شاهدتُ قتلى و جرحي الألغام الأرضية و هم جنودٌ و الضابط الإداري و بعض المواطنين كانوا في طريقهم من عبري إلى دلاميِ…
بدأ الناس يغادرون دلامي، يحملون الأثاثاتُ و العفشُ على متنِ اللواري… أصبحتَ معظم البيوت خالية من ساكنيها من الناسِ والعفشِ، و لكن المنازل بَقِيت على حالها لم يطالها يد الخرابِ والدمارِ، فهي إما اليوم أطلال أو ساكنيها ليسوا هُمُ هُمُ … أحياءُ السوق – الفريق – الملكية – تمبل – المؤمنين – تلاجن – نودر – شندي فوق – تغيرت الأسماء و أُستبدلت ب” الجهاد،السلام، الهدى و صابرين” كثيرون من الناسِ غادروا و بقى القليل… في دلامي اليوم فلا التجّار تجّار ولا الجزّار جزّار و لا الأفران أفران و لا الأستاذ أستاذ ولا الآذان آذان في منابره إذا تعالت…
بص سراج لوري سفنجة استبدل باوستن أبو راس – المحطةُ الأخيرةُ عبري – دلامي – أم برمبيطة – الرهد و بالعودة…
يتبع..!!
التعليقات مغلقة.