الانتافاضة // لبنى الفلاح
أكيد أنكم كنتم من متابعي مسارات السيول الجارفة بمدينة طاطا، الإقليم الواقع بالجنوب الشرقي للمملكة، والذي أصبح تابعا إداريا لجهة سوس ماسة، بعد أن كان في السابق ضمن جهة كلميم السمارة.
في أربع جماعات حضرية و16 جماعة قروية وفوق مساحة ممتدة على 825 128 كيلومتر مربع يستقر 841 117 فردا (حسب الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2014)، في وضعية فقر وهشاشة.
وضعية الهشاشة هاته عاينتُها في عامِ 2018 أثناء زيارتي للمنطقة لأول مرة، لمتابعة محاكمة ثمانية شبابٍ من أبنائها واجهوا التهم واحدةً تِلْوَ الأخرى، بعدما انتفضت الساكنة ضد الفقر المدقع في أغنى إقليم بالمغرب وفي إفريقيا عمومًا.
كيف هو حال ُ الإقليم؟
كما عيانتُ، فلِكَيْ تصل إلى عمالة إقليم طاطا وجب عليكَ عزيزي القارئ، المرور عبر طريقين اختياريَيْن إما: عبر إقليم تارودانت ثم مدينة إغرم وقيادة إيسافن وصولا إلى إقليم طاطا، أو عبر إقليم تيزنيت وجماعتيْ بويزكارن وتيغجيجت وصولا إلى قيادة تَمنارت ومن تَمَّ إلى عمالة إقليم طاطا.
العمالة توجد في فَج مُنبسِطٍ توَسَّطَ جبالا شاهقة يميل لونها إلى الحُمْرة، سُكانها أناسٌ طيبون جدا وكُرماء للغاية، أما عن بِنْيَتِها فهِيَ بدون بِنْيَة تحتية وبعيدة سنواتٍ ضوئية عن التنمية.
بحسب ما شاهدتْهُ عينِي، فهناك محكمة لا تشبِه باقي المحاكم في الهَرَجِ والمَرَجِ نتيجة الحركية المنعدمة للمتقاضين حيث تظل فارغة طِوال النهار لعامليْ القرابة والمصاهرة اللذين يساهمان بشكل كبير في حل المشاكل بين الأفراد، ومستشفى ومدرسة مُهْمَلَيْن وفندقٍ بسيط وواحاتٍ عَطْشَى للماء ومنازلَ معدودةٍ من الطين وبيتٍ إسمنتِيٍّ هنا وهناك.
السكان هناك يعانون عموما من مشكل «البْلَان» أو تصميم البناء؛ يقولون إن الدولة تفرض عليهم أداء مبلغ 14 ألف درهم مقابل هذا التصميم للانتقال من مساكن طينية إلى مساكن إسمنتية، وهو ما يعترضون عليه لعدم ملاءمة هذه التصاميم ومعايير السلامة بحكم أن المنطقة مُؤَهلة للزلازل والفيضانات في أية لحظة، بغض النظر عن كونها غير مجهزة بالوادي الحار، عدا عن أن مبلغًا كهذا ليس بحوزتهم فاليد قصيرة والعين بصيرة.
ما يثير العين في هذا الإقليم النائي عدد الأجانب المتواجدين بكثرة، والذين يتخذون من «الكرَافانات» مسْكنا لهم؛ يعيشون حياة طبيعية رغم اختلاف ثقافتهم، فنساؤهم يتجولون بلباس صيفي قصير لا علاقة له بما يرتدينه نساء المنطقة من لباس محتشم.
في هذه المنطقة بلاد العلم والعلماء وحفَظة القرآن، ستجد على بعد كيلومترات كنوزُ الله فوق أرضه؛ مناجم ممتدة على مَدَى كيلومترات لمعادن مختلفة، ستجد الذهب والفضة والنحاس والزنك والكوبالت والرصاص ومعادن أخرى نفيسة وأحجار كريمة. وبحسب ما رواه لي السكان، فمحيط هذه المناجم يخضع لحِراسة مشددة أربعٍ وعشرين ساعةً على أربعٍ وعشرين، ممنوعة على أيٍّ كان والاقتراب منها قد يودي بحياتهم.
ماذا عن المناجم؟
البحث عنها قد يُذهب العقل، ونحن في بلد يحتل وفق التقرير السنوي لمجلة Ceoworld الأمريكية، المرتبة 48 عالميا من حيث متوسط الراتب الشهري بالمغرب 1657 دولارًا خلال عام 2024، وقِسْ على ذلك دخْل المهَن الحرَّة والفئات الهشة مع ارتفاع عدد العاطلين عن العمل إلى مليون و645 ألف شخص على المستوى الوطني، بحسب تقرير حديث للمندوبية السامية للتخطيط.
قلت إن المنطقة وما جاوَرَها من المناطق تحتوي على مناجم بالجملة فستجد مثلا: منجم «إميضر» وهو أكبر منجم للفضة في إفريقيا، ومنجم النحاس والفضة «تيزغت» المتواجد بالجماعة الترابية أيت عبد الله التابعة لإقليم تارودانت، ومنجم الذهب بأقا، ومنجم النحاس والفضة «بوسكور» الواقع بجماعة سكورة التابعة لإقليم ورززات، ومنجم «إنسيمي» الواقع بالجماعة الترابية أيت وْفْقَا التابعة لإقليم تيزنيت، ثم منجم النحاس «أومجران» بالأطلس الصغير نواحي ورزازات.. وغيرها.
هذه المناجم وأخرى تسْتغلها مجموعة من الشركات المغربية والدولية كشركة SMI التابعة لـ«مناجم» التابعة بدورها للشركة الوطنية للاستثمار (الشركة الأم)، التي تستغل الذهب والفضة والنحاس والزنك والكوبالت والرصاص، والتي كانت موضوع احتجاجات سلمية لسنوات من طرف ساكنة «إميضر» لاستنزافها الموارد المائية للقبيلة خلال عملية التعدين، بالإضافة إلى الشركة البريطانية «أتيغيان» Aterian التي تستغل النحاس والفضة، والشركة الكندية «آيا غولد أند سيلفر» Aya Gold & Silver التي تستغل الذهب والفضة، وهي شركات تعتمد في الأغلب مُعَدِّنِينْ أجانب (الأشخاص الذين يستخرجون المعادن الخام من باطن الأرض من خلال عملية التعدين)، يتم جلبهم من دول أخرى غير المغرب، حيث إن أبناء المنطقة مقصيون من الاشتغال لأسباب تعرفها الدولة ويخبرونها هم أيضا. فعلى سبيل المثال، وبحسب بيانات حديثة تُشَغِّل شركة «مناجم» لوحدها 5009 أشخاص ينتمون إلى تسعِ دولٍ، بينها سبعُ دولٍ إفريقية، جنسياتهم تنوَّعت بين 22 جنسية متفرقة.
وعموما ووفق بيانات صندوق النقد الدولي، فإن المغرب يعد من الدول العربية الأعلى حيازة لاحتياطيات الذهب بـ22.12 طنا من الذهب.
وبحسب الأرقام المتاحة أيضا، فإن نسبة ما تصدِّرُه هذه الشركات المستغِلة للمناجم المغربية تبلغ 25 في المئة من الصادرات المغربية بما فيها الفوسفاط، والبالغة في مجملها نسبة 85.07 في المئة.
بيانات بورصة الدار البيضاء للسنة الفارطة 2023، كشفت أن شركة «مناجم» لوحدها حققت رقم معاملات بلغ 750 مليار سنتيم، فيما حققت شركة SMI رقم معاملات بلغ 106 ملايير سنتيم.
وبحسب بيانات مكتب الصرف لذات العام، فالبلد حققت في سنة 2023 أرقامَ معاملاتٍ ضخمة على مستوى صادرات المعادن؛ فمعدن الذهب لوحده حقق ما قيمته 19.6 مليار سنتيم، فيما حقق معدن النحاس ما قيمته 160 مليار سنتيم، ومعدن الرصاص ما قيمته 86 مليار سنتيم، و51 مليار سنتيم كرقم معاملات لمعدن الزنك، وما يناهز 130 مليار سنتيم كرقم معاملات للفضة. بينما حقق الفوسفاط ما قيمته 774 مليار سنتيم.
هذه البيانات وأخرى أي بيانات بورصة الدار البيضاء وبيانات الصرف لعام 2023، أظهرت أن رقم معاملات SMI (106 ملايير سنتيم) يقترب من رقم معاملات معدن الفضة لوحده في المغرب (130 مليار سنتيم)، بما نسبته 81.53 في المئة من قيمة الصادرات عموما، مما يطرح السؤال حول مدى احتكار هذه الشركة (SMI) لاستغلال هذا المعدن النفيس دون الإتاحة لشركات أخرى بخلق جو من المنافسة الحرة.
أين ذَهَبَ ذْهْبْ طاطا؟
سؤال كهذا قد يجرك عزيزي القارئ إلى السجن، فأنت لستَ في أمريكا أو كندا ولا في أية دولة ديمقراطية أخرى، الْتَهِي بمشاكلك التي فُرِضَتْ عليك؛ بالقفة وأسعار الخضر والفواكه والأسماك واللحوم والدواجن التي تطير في غَيْرِ مناسبة، وبالدخول المدرسي المتأخر وتكلُفة الكُرَّاسَات الغالية الثمن، الْتَهِي أيضا بصحتك العَلِيلَة وبأجرِك الزهيد، فأما ذْهْبْ طاطا فهو في «العرجات» كما أجاب أحد الأصدقاء ساخرًا وأنا أسأله مُعَلِّقة على الفيضانات: «وفِينْ ذْهْبْ طاطا».
السؤال عنه، كان سببا في اعتقال وزير حقوق الإنسان السابق محمد زيان، 82 سنة، بسجن «العرجات 1» لسنوات، والذي من المؤكد أنك كنت من متابعيه أو أنصاره وتعرف الحكاية من ألِفِهَا إلى يائِها، وها هي الأيام والطبيعة ينصفان الرجل كما أنْصَفَا طاطا وأبناء طاطا؛ العبارة التي جَعَلتْها الفيضانات من الكلمات المفتاحية الأكثر بحثًا وتصفحًا في محرك البحث «غوغل» هذه الأيام.
ذْهْبْ طاطا عزيزي القارئ، ولِعلمك، حَلَّقَ عاليا عبر الطائرات إلى وِجهات مختلفة خارج المغرب إلى البرازيل وسويسرا وألمانيا، تاركا وراءه ساكنة جَرَفَتْ أفرادَها وأغنامَها ومحاصِيل واحاتِها سُيُول الأمطار.
فوفق البيانات الصادرة عن «مناجم» في تقريرها عن الفصل الأول من سنة 2023، فقد حققت هذه الشركة لوحدها رقم معاملات مع الخارج بلغ نسبة 100 في المئة، بمعنى أن الناتج الوطني وُجِّهَ في مجمله إلى دول الاتحاد الأوروبي ودولاً أخرى كلٌّ حسب الطلب: أوروبا (الفضة والذهب)، أوروبا وآسيا (الزنك، النحاس والرصاص)، أوروبا وآسيا وأمريكا (الكوبالت)، وبالنسبة للمغرب فقد تعاملت الشركة مع شركات الإسمنت، كما دعمت السوق المغربية بمادة أوكسيد الزنك التي تستعمل في القطاع الفلاحي.
ماذا تبقى؟ لم يتبقَ شيء فقط هذا النَرْزُ القليل من المعطيات عن أغنى إقليم في المغرب وفي القارة السمراء ومناجم واكتشافات جديدة من أجل استغلال المعادن نقرأ عنها بين الفينة والأخرى، وصورٌ كثيرة لفيضاناتٍ جَرَفَتْ البعير والحمير الغنم والبشر في طاطا، وأخرى لمخلفات زلزالٍ دَكَّ الأرض وما عليها في الحوز.
التعليقات مغلقة.