شباب يضعون مدينة الخميسات في عين عدسة آلة التصوير

الانتفاضة // ‏فؤاد بلحسن

رُويدا رويدا، أخذ فن التصوير الفوتوغرافي يَـنال الاعتراف في الوسط الفني العالمي. ‏فابتداء من المنتصف الأول من القرن 19 إلى بداية القرن 20، كان عليه أن يخوض ‏نقاشات طويلة، وأحيانا حادة، بين الفنون التي أخذ يتحداها أو يُنافسها أو هكذا تُهُيِّئ ‏لها، كفن رسم البورتريهات واللوحات الواقعية والفن الصباغي عموما. يؤرخ شارل ‏بودلير لهذه الحقبة بالقول: «إن الصناعة التي تُضاهي الطبيعة في إبداعاتها هي التي ‏تمثل الفن المطلق، في اعتقاد عامة الناس… عندئذ قيل: بما أن التصوير الفوتوغرافي ‏يعطينا كل ضمانات الدقة المرغوب فيها، فإن الفن الحقيقي هو التصوير ‏الفوتوغرافي». وهناك من ذهب بعيدا بعض الشيء، في نوبة من الحماس، إلى القول: ‏‏«إن اختراع التصوير الفوتوغرافي قد سدد ضربة قاضية لطرائق التعبير العتيقة، ‏سواء في الرسم أو الشعر». والقائل هو أندري بريتون.‏

ضمن خطوط التماس هذه التي جرت بين الفنون، نَما الوعي بالصورة الفوتوغرافية، ‏قبل أن ندخل فعليا عصر الصورة من أوسع أبوابه، في الإعلام والسينما والرقميات. ‏لكن السؤال المركزي الذي وجه النقاشات ظلَّ هو هو: “هل الصورة الفوتوغرافية ‏تعبير عن الواقع، أم هي حامل لحقائق جديدة؟”.‏
وفي خضم الإجابات والنقاشات، تطورت الصورة وتطور فنها. فسريعا، انتقلنا من ‏الصورة التي تكتفي بطموح تسجيل ما ترى بدقة (أي المطابقة مع الواقع) إلى الصورة ‏الفوتوغرافية الفنية التي يؤطرها فن التصوير الفوتوغرافي بمدارسه وتوجهاته ورؤاه ‏الجمالية. وهذا قبل أن تتعقد التقنية/الآلة أكثر فَتُساهم بدورها في توسيع مدى ‏الاحتمالات بالنسبة للفنان الفوتوغرافي ومدى التلقي والتأويل بالنسبة للمتلقي، على ‏السواء.‏

فتدريجيا، خرجنا، عن طريق الفن، من فكرة المطابقة مع الواقع إلى تجاوزه، أي من ‏السعي إلى إيجاد شهادة مصورة عن حقيقة الواقع إلى البحث عن تأويل جمالي مصوَّر ‏له. لكن، في رأيي ظلت الصورة الفوتوغرافية الفنية، في جميع الحالات، لا تخرج عن ‏وظيفة الصورة ككل، المتمثلة في التوثيق من جهة، وتشكيل وإعادة تشكيل الذاكرة، ‏الفردية والجماعية: فللصورة نصيب في كتابة التاريخ (كما لها نصيب في تزويره ‏أيضا)، كما أن لها نصيب في بناء وتثبيت وترميم الذاكرة. ‏
فإعادة التوجيه الذي خضعت له الصورة مع فن التصوير الفوتوغرافي، أي توجيهها ‏نحو الفن، لم يُسقط بعدها التوثيقي ما دام في استطاعتها أن تنفذ إلى عمق الواقع.‏

وجاء المعرض الجماعي للصور الفوتوغرافية المنظم في قاعة المعارض بحي السلام ‏ خلال الايام القليلة الماضية من هذه السنة (2024)، تحت عنوان: “الخميسات: الصورة الوثيقة، ‏الصورة الذاكرة”، ليُقدم قصة مصورَة لـ 3 شبان، من جيل الصورة والرَّقمنة، عن ‏واقع مدينة الخميسات. 3 رؤى تتقاطع وتختلف، 3 تجارب تغتني بالممارسة ‏والتجريب، قَدَّمت لنا وجبة فنية وجمالية استثنائية في شكلها ومضمونها.‏

في هذه القصة المصورة عن المدينة تحضر الرغبة في تجاوز الواقع بصورة لافتة. كأن ‏الصورة هنا، وهي تتلبَّس بالفن، تَفِر من واقع تَراهُ أمامها لتُلامس واقعا تَرْغب فيه. ‏ففي المسافة بين ما تراه العين وما تلتقطه العدسة فنيا، تحضر هموم 3 شبان: ‏سفيان أقنوي، أنوار بوعلي ومحمد أحبشان. هموم تحكي انتكاسة مدينة في سلم ‏التنمية، فتُحاول، من خلال الفن، أن تختبر علاقات جديدة مع المدينة. حيث تظهر ‏هذه المحاولة في مجموع عمليات ترميم ما تراه العين لما تتحول عدسةُ المصوِّر إلى ‏مختبر لتضميد الجراح واستشفاء الروح وطَمْأنة الـمِزاج بشأن غد ممكن وأفضل.‏

فموضوعية الواقع المطروح أمام العدسة (أي المدينة بفضاءاتها وأناسها)، لا تُغَيب ‏ذاتية تناول هذا الواقع، تلك الذاتية التي تُترجَم في اختيار الفنان لزوايا التقاط ‏الصور وشدة الإضاءة والتحكم في الألوان وتدرجها وإدارة لعبة الضوء والعتمة وضبط ‏مسارات الخطوط المرئية وغير المرئية وتموضع الأشياء على المساحات والحرص على ‏إيجاد تناغم عام لما يشكل إطار اللقطة ككل.‏
فضمن تدبير هذه المتغيرات التقنية والبصرية، قدم الشبان الثلاثة رؤيتهم الجمالية ‏لمدينة حافلة بالتناقضات ومواطن العجز وقصص الأمل والرغبة في التغيير. وهي رؤية ‏استطاعت أن تُقيم جسرا فنيا أصيلا بين ما تراه العين وما يريده القلب، بين مدينة ‏سكرانة في تأخرها ومدينة ‏متخيلة بالاستناد إلى الذاكرة والحنين وجرعات من الأمل ورفض الواقع القائم.

إن هذا الحضور للتخييل والواقع في العمل الفني الفوتوغرافي، ولو بدرجات متفاوتة، ‏هو الذي أعطى لمعرض الشبان الثلاث عنوانه “الخميسات: الصورة الوثيقة، الصورة ‏الذاكرة”. فالتوجه التخييلي الذي تستبْطِنُه العملية الفنية للتصوير الفوتوغرافي لا ‏يُلغي الحضور القوي للمرجعية الواقعية للعمل. فحين يضغط زر الآلة بقوة في وتر ‏حياة الناس (بائعة الحليب؛ النشاط التجاري في محيط «الشاطو»؛ النقل عبر ‏‏«الكوتشي»؛ السير والجولان في الشوارع؛…) وفضاءات المدينة (الحي الصناعي؛ شارع ‏‏«الأربعة أيام»؛ ساحة الحسن الأول؛ شارع «شوفوني»؛ دار الصناعة التقليدية؛…) ‏تستيقظ ذاكرة المكان وذاكرة الثقافة معا. وحينها يكون المعرض قد وصل بالزائر-‏المتلقي إلى حيث أراد.‏

 

التعليقات مغلقة.