فضل العشر الأواخر من رمضان

الانتفاضة/ ياسمين السملالي

أسرعت أيام رمضان ولياليه انقضاء، ومر من رمضان عشره الأوائل ثم عشره الأواسط، ولم يبق من رمضاه الا الثلث الأخير والعشر الأواخر..

وإذا كان العلماء قد اتفقوا على أن رمضان هو خير الشهور وأفضلها، فإنهم قد اتفقوا كذلك على أن العشر الأواخر منه هي أفضل ما فيه وأعظم لياليه؛ فهي فضل الفضل وخير الخير.. وأعظمها بالإجماع ليلة القدر فهي أفضل العشر بل أفضل ليلة في الوجود.

وإذا كان رمضان قد قارب الرحيل وأشرف على نهايته فإن “العبد الموفق من أدرك أن حسن النهاية يطمس تقصير البداية، وما يدريك لعل بركة عملك في رمضان مخبأة في آخره، فإنما الأعمال بالخواتيم.

لقد خص الله تعالى العشر الأواخر من رمضان بمزايا لا توجد في غيرها، وبعطايا لا سبيل في سواها لتحصيلها.
أهم الأعمال في العشر الأواخر من رمضان
العشر الأواخر من رمضان أوقات فاضلة ونفحات ربانية مباركة، والواجب على المسلم استثمارها واغتنام كل لحظة ونفس فيها بالطاعات والقربات، فقد بلغ من اغتنام الصحابة والسلف لها أنهم كانوا يفطرون على لقيمات ويؤخرون الفطور الكامل للسحور حتى لا يضيع الوقت في الطعام، فعن زر بن حبيش (رضي الله عنه) قال: “في ليلة سبع وعشرين من استطاع منكم أن يؤخر فطره فليفعل وليفطر على ضياح لبن”. ومن أهم أعمال العشر الأواخر من رمضان ما يلي:
ترك الخصومة والتلاحي.
إن أول وأهم عمل في العشر الأواخر من رمضان هو ترك الخصومة والتباغض والتشاحن وتصفية القلوب من الغل والحقد والحسد تجاه المسلمين، فقد كانت الخصومة والملاحاة سببا في رفع تعيين ليلة القدر، وقد تكون سببا من الحرمان من العفو والمغفرة فيها، ومن أراد العفو من الله فليبادر في العشر الأواخر بالعفو عن الناس. عن عبادة بن الصامت (رضي الله عنه) قال: خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: “خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم” (رواه البخاري).
الاعتكاف
الاعتكاف هو لزوم المسجد بنية الاعتكاف، ولا يكون إلا في المساجد قال تعالى: ﴿ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد﴾ [البقرة: 187]، وهو سنة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فقد كان “يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما” (رواه البخاري). والحكمة من الاعتكاف اعتزال الدنيا والناس وهو بمثابة حمية روحية سنوية، يقول ابن القيم -في بيان حكمة الاعتكاف- إن “‌عكوف ‌القلب على الله تعالى وجمعيته عليه، والخلوة به والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته فيستولي عليه بدلها ويصير الهم كله به والخطرات كلها بذكره والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسه بالله بدلا عن أنسه بالخلق فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه”.
وما أحوجنا في هذا العالم المادي إلى الاعتكاف والاعتزال والخلوة مع الله والأنس به بعد أن أجلبت علينا المادية بخيلها ورجلها، والاعتكاف بحق هو الذي يتجنب المعتكف فيه كل مشتتات القلب والمشوشات عليه من مخالطة لكل ما يذكره بالدنيا، هو الذي ينقطع فيه عن الخلق ويتصل بالخالق، هو الذي تستثمر فيه الأوقات والأنفاس ولا تضيع في التصفح الشبكي أو التسامر مع المعتكفين، فرب معتكف ليس له من اعتكافه إلا الحبس والبقاء في المسجد، ومن عجيب ما نقل عن الإمام أحمد أنه قال: “إن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس حتى ولا لتعليم علم وإقراء قرآن، بل الأفضل له الانفراد بنفسه والتخلي بمناجاة ربه وذكره ودعائه”. وذكر وقراءة قرآن، تقول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر) رواه مسلم.
فكان عليه الصلاة والسلام يوقظ أهله في هذه الليالي للصلاة والذكر، حرصا على اغتنامها بما هي جديرة به من العبادة، قال ابن رجب: “ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه”. وشد المئزر هو كناية عن ترك الجماع واعتزال النساء، والجد والاجتهاد ف

اغتنام الوقت
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله، قال: وأيكم مثلي! إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني) متفق عليه. 
ولا شك أن المقصود هنا الغذاء الروحي، والفتوحات الربانية، وليس الطعام والشراب الحسي.. وإنما نهاهم عن الوصال حتى لا يضعفوا عن العبادة والاجتهاد في الطاعة، وإلا فإن كل ذلك كان منه اغتناما للوقت، وعدم تضييع شيء منه، ولو في طعام أو في منام فصلى الله عليه وسلم أعظم صلاة وأتم سلام.

العبادة الجامعة
سألت السيدة عائشة (رضي الله عنها) رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “يا رسول الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو” (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه بسند صحيح). فهي رضي الله عنها تعلم أن أفضل عبادة في العشر الأواخر هي الدعاء لكنها تسأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن أفضل الدعاء، ولهذا كان الإمام المحدث الثقة الفقيه سفيان الثوري يقول: “الدعاء في تلك الليلة أحب إليّ من الصلاة”. والعبادة الجامعة في العشر الأواخر من رمضان هي قيام الليل والتهجد، لأنك بالقيام تحصل أجر قيام ليلة القدر، وبالدعاء تتحقق بالنصيحة النبوية في حديث عائشة رضي الله عنها، وفي القيام تقرأ القرآن، قال الثوري: “وإذا كان يقرأ وهو يدعو ويرغب إلى الله في الدعاء والمسألة لعله يوافق”.
الدعاء
سؤال العفو في ليلة القدر لون من ألوان الأدب مع الله، كأن العابد مع كثرة عبادته في تلك الليلة لا يراها شيئا ولا يرى نفسه شيئا، فيسأل الله العفو، والعفو من أسماء الله الحسنى ومعناه: المتجاوز عن سيئات عباده الماحي لآثارها، والله تعالى يبتلى عباده بالذنوب ليعفو عنهم بعد توبتهم لأنه يحب العفو، قال يحي بن معاذ: “لو لم يكن العفو أحب الأشياء إليه لم يبتل بالذنب أكرم الناس عليه” وخير الدعاء ما توازن فيه الداعي بين حاجات الدنيا والآخرة كهذا الدعاء القرآني الجامع: ﴿ربنا آتنا في ‌الدنيا ‌حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار﴾ [البقرة: 201]، والدعاء الصاعد إلى السماء ما كان بلسان الذلة والانكسار لا الفصاحة والانطلاق.

التعليقات مغلقة.