نتذكر دائما ، وخاصة في هذا الشهر العظيم أول آية نزلت من القرآن ، عندما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم في الأربعين من عمره أذن الله عز وجل للنور أن يتنزل، فإذا جبريل عليه السلام آخذ بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: اقرأ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ، فقال في الثالثة: ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ مِنْ عَلَقٍ ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلاْكْرَمُ [العلق:1-3]. فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده)) [البخاري:3].
هكذا نزلت أول آية من القرآن في هذا الشهر العظيم .. هكذا شهدت أيامه المباركة اتصال الأرض بالسماء، وتنزل الوحي بالنور والضياء، فأشرقت الأرض بنور ربها وانقشعت ظلمات الجاهلية عنها .
وقد ذكر العلماء أن القرآن نزل جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وذلك في ليلة القدر . قال ابن عباس: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة [النسائي والحاكم].
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: (كان رسول الله صلى اللهم عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى اللهم عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) .
قال ابن رجب: دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك، وعرض القرآن على من هو أحفظ له. [لطائف المعارف:354].
وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان .
وفي الصحيحين عن فاطمة رضي الله عنها عن أبيها صلى الله عليه وسلم أنه أخبرها أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن كل عام مرة، وأنه عارضه في عام وفاته مرتين.
قال ابن رجب: وفي حديث ابن عباس أن المدارسة بينه وبين جبريل كانت ليلاً مما يدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلاً فإن الليل تنقطع فيه الشواغل ويجتمع فيه الهم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر كما قال تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً [المزمل:6]. [لطائف المعارف:355].
حال السلف مع القرآن :
لقد كان للسلف رحمهم الله اجتهاد عجيب في قراءة القرآن في رمضان بل لم يكونوا يشتغلون فيه بغيره.
وكان الزهري إذا دخل رمضان يقول: إنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام.
وكان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم إلى القرآن .
وكانوا يكثرون من كثرة الختمات :
فقد كان الأسود يختم القرآن في رمضان كل ليلتين، وكان يختم في غير رمضان كل ست ليال.
وكان قتادة يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة.
وكان الشافعي يختم في شهر رمضان ستين ختمة .
قال النووي: وأما الذي يختم القرآن في ركعة فلا يحصون لكثرتهم فمن المتقدمين عثمان بن عفان، وتميم الداري، وسعيد بن جبير رضي الله ختمة في كل ركعة في الكعبة. [التبيان:48].
قال الذهبي: قد روي من وجوه متعددة أن أبا بكر بن عياش مكث نحواً من أربعين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة مرة، ولما حضرته الوفاة بكت أخته فقال: ما يبكيك؟ انظري إلى تلك الزاوية فقد ختم أخوك فيها ثمانية عشر ألف ختمة. [سير أعلام النبلاء].
وكان الحافظ ابن عساكر يختم كل جمعة ويختم في رمضان كل يوم. [سير أعلام النبلاء].
أيهما أفضل؟ أن يكثر الإنسان التلاوة أم يقللها مع التدبر والتفكر؟
قال النووي رحمه الله: والاختيار أن ذلك يختلف بالأشخاص فمن كان من أهل الهم وتدقيق الفكر استحب له أن يقتصر على القدر الذي لا يختل به المقصود من التدبر واستخراج المعاني … ومن لم يكن كذلك فالأولى له الاستكثار ما أمكنه من غير خروج إلى الملل، ولا يقرؤه هذرمة. [الفتح:8/715].
ومعنى ذلك أن الإكثار مطلوب ، لكن لا ينبغي أن يطغى على الفهم والتدبر، فلايكن هم المرء كثرة الختم دون أن يعقل مما قرأ شيئاً.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن رجلا قال له: إني أقرأ المفصّل في ركعة واحدة، فقال عبدالله: هذاً كهذ الشعر؟! – ينكر عليه يعني الإسراع في القراءة – إن قوماً يقرأون القرآن لايجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع.
وقال ابن مسعود: لا تنثروه نثر الدقل – يعني التمرالرديء- ولا تهذوه كهذّ الشعر، وقفوا عند عجائبه وحرّكوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة .
قال بعض العلماء في بيان هذه المسألة: إن من رتل وتدبر كمن تصدق بجوهرة واحدة ثمينة، ومن أسرع كمن تصدق بعدة جواهر لكن قيمتها قيمة الواحدة، وقد تكون قيمة الواحدة أكثر من قيمة الأخريات، وقد يكون العكس.
اقتراح : يمكن أن يجعل له مع القرآن ثلاثة مسارات:
المسار الأول: مسار الإكثار من التلاوة وتكرار الختمات، فيجعل الإنسان لنفسه جدولاً ينضبط به، بحيث يتمكن من ختم القرآن مرات عديدة ينال خيراتها وينعم ببركاتها.
المسار الثاني: مسار التأمل والتدبر، فيستفتح الإنسان في هذا الشهر الكريم ختمة طويلة المدى يأخذ منها في اليوم صفحة أو نحوها مع مراجعة تفسيرها وتأمل معانيها، وقد تطول مدة هذه الختمة إلى سنة أو أكثر ، لكنها نافعة مباركة .
المسار الثالث: مسار الحفظ والمراجعة، فيجعل لنفسه مقدارا يومياً من الحفظ ومثله من المراجعة، وإن كان قد حفظ ونسي فهي فرصة عظمى لتثبيت الحفظ واسترجاع ما ذهب، ولست بحاجة إلى التذكير بجلالة منزلة الحافظ لكتاب الله ورفيع مكانته، وحسبه أنه قد استدرج النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى له.
كيف نتدبر القرآن؟ خطوات التدبر :
ذم الله الذين لا يتدبرون كلامه، ومثلهم بأقبح الأمثلة وأبشعها، فقال تعالى: مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا
ونبينا جعل من أوصاف الخوارج أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، أي: أنهم يأخذون أنفسهم بقراءة القرآن، وهم لا يتفقهون فيه ولا يعرفون مقاصده .
1) حسن الاستماع والإصغاء لكتاب الله عز وجل. حسن الاستماع هو الأول والمبدأ والفاتحة والبداية، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ، وتأمل بلاغة القرآن المعجزة الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ وليس يسمعون .
والحق جل وعلا يقول: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204].
2) حسن النية: ونعني بذلك أن نُقبل بصدق، وأن نستمع ونتلو بنية خالصة، نبتغي بها وجه الله تعالى .
قال ابن القيم رحمه الله: “العامل بلا إخلاص كالمسافر يملأ جرابه رملاً، يُثقله ولا ينفعه”.
3) حسن التلاوة: وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل:4].
((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) كما أخبر المصطفى فيما رواه البخاري.
قال العلماء: المطلوب شرعًا إنما هو تحسين الصوت، الباعث على تدبر القرآن وتفهمه، والخشوع والخضوع، والانقياد والطاعة.
4) الإلمام بتفسير القرآن ولو باختصار شديد، ولو بنسخة من القرآن بهامشها تفسير .
5) حسن التفكر في معاني الآيات .
أن يقرأ القرآن بحضور قلب، فكثير من الناس يقرأ القرآن وهو غافل لاه، يقرأ بلسانه، وعقله وفكره وقلبه في واد آخر، وهذا لا ينتفع من القرآن البتة، لكن يثاب على نيته قصد القراءة والتقرب إلى الله جل وعلا .
6) التفاعل مع دلالات الآيات، كما جاء في حديث حذيفة عند مسلم عندما صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه ، قال: (يقر مترسلاً، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأله، وإذا مر بتعوذ تعوَّذ) .
فعليك بهذه السنة ، فهي تعينك على التدبر ، وتعلق القلب بالقرآن .
7) استحضار عظمة المتكلم سبحانه وتعالى وعظمة الخطاب .. القرآن رسائل من الله لك.
قال ابن القيم: اذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه, وألف سمعك, ,احضر حضور من يخاطبه به من تكلّم به سبحانه منه اليه, فانّه خطاب منه لك, على لسان رسوله, قال تعالى:{ انّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.
التعليقات مغلقة.