الانتفاضة
ايت ايحيا بني اعياط/ رضوان فريحا
حل موسم جني الزيتون وبدأ التجار في نصب براريكهم، ماهي إلا أيام حتى تدب الحركة في ساحة “أخرطوف”، فغدت الساحة الموحشة المقفرة سوقا مفتوحا، موازين صغيرة و أخرى كبيرة، فالتجار أصحاب الموازين الكبيرة يشترون من الفلاحين مباشرة، و أصحاب الموازين الصغيرة يشترون من اللصوص الصغار، خاصة عندما تنصب مع بداية موسم الجني، فالميزان الصغير عادة يخصص لشراء حبات الزيتون المتناثرة هنا وهناك، بعد أن يكون الفلاحون قد جنوا محاصيلهم، مما يقتضي تأخر التجار الصغار عن شراء الغلة من الأطفال، إلا أنه في السنوات الأخيرة بدأ الميزان الصغير يزاحم الميزان الكبير في الإعلان عن موسم الجني.
فالصغار الذين تغريهم أصناف الحلوى المرتبة على الرفوف و ألعاب البابي فوت ” البيار” ،لايترددون في المغامرة على السرقة من حقول الزيتون العذراء، خاصة بعد صيف طويل مفلس، لا نكاد نشم فيه رائحة الدراهم و لا الحلويات إلا بصعوبة بالغة، كانت ما تزال النقود الصفراء رائجة، وكنا مازلنا نستطيع شراء ريالين من بذور عباد الشمس او مايعرف بالفرنسوية”Graines de tournesol”، أو أربع ريالات من “المعسلة”.
يتوافد العمال على القرية من المناطق الجبلية المجاورة او حتى النائية للعمل في جني الزيتون، كنا عنصريين بعض الشيء في التعامل معهم، فقد كان المحليون يطلقون عليهم “القوم” وهناك من يزيد على هذا اللقب وصف الظالمين، وكأننا كنا نحن القوم الصالحون!
لم نكن ندري من أطلقه عليهم أول مرة أو مغزاه، لكننا تناقلته ألسننا بعصبية عمياء، لم يكن هؤلاء العمال الموسمين ظالمين، إلا أن بؤسهم قد قادهم إلينا ولازلنا نتذكر طيبوبة بعضهم رغم مرور السنين، كانوا يبيتون في البراريك، و يقضون شهور الشتاء القارس في جني الزيتون، يشعلون النار في الصباح الباكر لتدفئة أيديهم المجمدة بالبرد، ومنهم من يحالفه الحظ فيقضي الموسم في ضيافة صاحب الحقل يوم كانت الشموع و اللمبات مصدر النور الوحيد.
كان موسم جني الزيتون فرصة لا تعوض لنا نحن الصغار لنصبح أثرياء، سامحنا الله، فلم نكن نميز بين الحقول المجنية و الحقول المثمرة، كان السهل المترامي الاطراف كله ملكا لنا، يكفي أن نرى شجرة تنوء بحملها حتى نسارع لتخفيف الثقل عنها،معارك متواصلة مع الملاك، كر وفر، لم تكن تثنينا الفلقة التي كنا نأكلها عن تحقيق الغايات.
رغم ذلك كنا نتجنب حقول “المناحيس”، شديدي البأس، خفيفي الحركة، سريعي الجري، كان الفلاحون يقضون النهار في الجني بينما كنا نحن نستلم المشعل بالليل، نصنع جناياتنا و نستطلع بالنهار الحقول المثمرة ثم نغير بالليل.
كنا ننفق جزءا من مدخراتنا في الحلويات ونحن نعلم بيقين تام أننا لن نذوق الحلوى حتى الموسم المقبل إلا نادرا، نشتري ملابس جديدة من سوق السبت، وربما دراجة جديدة، نتردد على الأسواق ونعيش الحياة على إيقاعنا ونرى العالم بأعيننا الصغيرة.
لم نكن نسأل في البيت عن طعام، فقد كنا نشتري ما نشتهيه خارجا، فنعفي أمهاتنا من الطبيخ، التونة بالفلفل الحار، البيض المسلوق، اليوغورت…و اشتهي يا جائع.
كان التعود على هذا المستوى من الانفاق، غالبا ما يخلف صعوبات في الفطام، فما أن تمسك أشجار الزيتون كرمها و يشرف الموسم على النهاية حتى نتعود على السرقة فنجبر على سرقة حبات الزيتون المجفف الذي تعده الجدات فوق السطوح ونبيعه لأصحاب البراريك. و ننشل القطع النقدية من سترات الكبار.
كانت رائحة الزيت تنبعت من المعاصر التقليدية و المرجان يتدفق في الوديان، والفيتور يملأ أبواب المعاصر، لم تكن الحداثة قد انتشرت بعد، فكانت المعاصر التقليدية وحدها تتولى انتاج الزيوت. كانت أكوام الزيتون تنتظر دورها وعندما يحين الدور تتم المناداة على صاحب المحصول الذي يقضي أياما بلياليها في الطحن بالدولاب الذي يدار بالحمير و العصر بقوة العظلات واستخراج الزيت، كنا نستمتع و نحن نتذوق أول قطرات الزيت في طقوس قد اختفت مع ظهور معاصر الزيتون العصرية…
التعليقات مغلقة.