تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، نظمت مؤسسة القانون القاري يومي 24 و25 أكتوبر الجاري بالرباط الملتقى الخامس لحقوقيي البحر الأبيض المتوسط حول موضوع “العقود في منطقة البحر الأبيض المتوسط”، وذلك بحضور أزيد من 400 مشارك يمثلون دول المنطقة.
ويأتي تنظيم هذا اللقاء الدولي السنوي بعد أربع لقاءات احتضنتها كل من مصر، فرنسا، إيطاليا والجزائر.
ويكتسي موضوع هذه الدورة أهمية بالغة اعتبارا لحجم تطور العلاقات الاقتصادية بين دول شمال وجنوب حوض البحر الأبيض المتوسط، خاصة بعد اتفاقيات الشراكة السبعة الموقعة بين الاتحاد الأوروبي ودول غير أوروبية. اتفاقيات تتوخى وضع إطار للمبادلات يهدف إلى خلق منطقة حرة لتنقل الخدمات والسلع والرساميل.
وإذا كانت هذه الاتفاقيات قد خصصت حيزا مهما لمجالات التعاون على المستوى القضائي فإن المجال التعاقدي ظل الغائب الأكبر علما أنه يشكل الإطار القانوني المنظم للعلاقات التجارية إن على مستوى عقود الاستثمار أو عقود التجارة الدولية.
وانكب المشاركون في هذه التظاهرة الدولية، من خلال الموائد المستديرة والورشات المنظمة على هامشها، على استعراض ومناقشة الأنظمة القانونية المعتمدة من قبل الدول المتوسطية في مجال عقود الاستثمار والتجارة الدولية والوقوف على الإشكاليات المتعلقة باختلاف وتعارض الأنظمة القانونية بين دول شمال وجنوب المتوسط وانعكاساتها على تشجيع الاستثمار وتقوية الجاذبية القانونية والاقتصادية في الدول المعنية.
وتتجلى أهمية هذا الحدث أيضا في كونه يشكل ملتقى يجمع في آن واحد رجال القانون وخبراء الاقتصاد في ظرفية دولية صعبة، هاجسهم تحصين اتفاقيات الشراكة بين ضفتي حوض البحر الأبيض المتوسط من خلال توحيد الرؤى و الآليات القانونية والاقتصادية في أفق الاستثمار الأمثل لمقومات هذه الشراكات، فضلا عن كون هذه التظاهرة تمثل فرصة لربط علاقات تعاون وشراكة من أجل بلورة مشاريع مشتركة بين الفعاليات الحاضرة وذلك في سياق مقاربة تتوخى تشجيع الحوار وتقريب الأنظمة القانونية.
للإشارة فإن هذا الملتقى المتوسطي نظم بدعم وشراكة مع مؤسسات وطنية اقتصادية، مهنية وأكاديمية وازنة من بينها المدرسة الوطنية للإدارة، مدرسة الحكامة والاقتصاد، الهيئة الوطنية للموثقين، جمعية هيئات المحامين بالمغرب، هيئة المحامين بالرباط و اتصالات المغرب.
وتميزت الجلسة الافتتاحية بحضور وزير العدل والحريات والوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالوظيفة العمومية وتحديث الإدارة والرئيس الأول لمحكمة النقض.
كلمة الرئيس الأول لمحكمة النقض مصطفى فارس
بشرف واعتزاز يطيب لي أن أشارك اليوم في هذا اللقاء الدولي المتميز المنعقد تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده والذي يتناول موضوعا ذي أهمية بالغة وأبعاد كبرى ترتبط بمفهوم الأمن التعاقدي في الفضاء المتوسطي.
واسمحوا لي أن اغتنم هذه المناسبة لأثمن غاليا اختياركم الموفق لبلدنا كأرض للقاء وفضاء للتواصل، كما أعبر لكم عن شكري وامتناني على دعوتكم الكريمة التي تعبر عن المستوى المتميز للعلاقات التي تربط محكمة النقض المغربية والعديد من الشركاء والفاعلين في مجال العدالة وطنيا ودوليا الذين نعمل معهم سويا من أجل تطوير كل المقاربات التشاركية وتكريس آليات للحوار والعمل البناء.
فتهانئي للجميع على كل ما بذلوه لإنجاح هذا الحدث الهام في جوانبه الإنسانية والتنظيمية والعلمية.
الحضور الكريم؛
لقد كان الإطار المتوسطي دوما جسرا للحوار وفضاءاً للإنتاج المعرفي الغني بتنوعه العرقي وتعدده الهوياتي والإديولوجي ومصادره المتجذرة في عمق تاريخ الإنسانية باعتباره مهدا لأكبر وأعرق الحضارات وأقدمها وموطناً لفسيفساء من الثقافات والتقاليد والتجارب.
ولأن الجغرافيا تكتب التاريخ، فقد أبت جغرافيا المغرب إلا أن تؤكد هذا البعد المتوسطي لبلدنا منذ مدة طويلة فجاءت شهادة الجغرافي الفرنسي سيلبيري كما يلي: ” انظروا إلى الجيولوجيا والجغرافية القديمة، إن مغرب الشمال يظهر أنه جزء من أوروبا البحر الأبيض القريبة …… ومغرب الجنوب متصلا بنواحي إفريقيا العتيقة جيولوجيا…” وليس أبلغ في هذا المقام ما أكده جلالة الملك المغفور له الحسن الثاني في مؤلفه الجليل الأهمية ” التحدي” حيث قال: ” المغرب يشبه شجرة تمتد جذورها المغذية امتدادا عميقا في التراب الإفريقي وتتنفس بفضل أوراقها التي يقويها النسيم الأوروبي”.
كما أذكر أيضا بأن الاهتمام الخاص الذي يحظى به البعد المتوسطي لبلادنا يظهر بشكل جلي وواضح من خلال أطروحة الدكتوراه المتميزة التي ناقشها صاحب الجلالة محمد السادس نصره الله في فرنسا سنة 1993 وجلالته ولي العهد آنذاك حول موضوع ” التعاون بين السوق الأوروبية المشتركة والمغرب العربي”.
كل هذا يجعل المكون المتوسطي من روافد الهوية المغربية إلى جانب الروافد الإفريقية والعبرية والأندلسية وخيار تعزيز روابط التعاون والتقارب والشراكة مع بلدان الجوار الأورومتوسطي التزاما إستراتيجيا بمقتضى تصدير دستور يوليوز 2011، وهو ما جعل المغرب يسطر إستراتيجية منذ مدة طويلة تهدف إلى توطيد موقعه في هذا المحيط المتوسطي، من خلال فتحه لأوراش تنموية كبرى ذات أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية وحقوقية وثقافية تكرس دولة الحق والمؤسسات وترتكز على عدالة قوية، نزيهة ومستقلة.
الحضور الكريم؛
إن النظر في شمس العولمة يقتضي التحديق في قمر الذات، وهو ما جعلنا ننكب منذ أكثر من سنة على تنزيل مقتضيات الدستور الجديد من خلال حوار وطني حول إصلاح منظومة العدالة شمل مجموعة من المحاور الإستراتيجية مثل توطيد استقلال السلطة القضائية وتخليق منظومة العدالة وتعزيز حماية القضاء للحقوق والحريات والارتقاء بفعاليته ونجاعة العدالة وإنماء قدراتها المؤسساتية وتعزيز حكامة الإدارة القضائية، وهي كلها ذات ارتباط وثيق بالمحاور العلمية التي سيتم تناولها بالمناقشة في هذا اللقاء المتميز مما سيشكل لنا جميعا فرصة لتبادل الرؤى واستلهام التجارب بخصوصها.
ويبقى الرهان في نظري هو إيجاد علاقات تعاون متوازنة تراعي خصوصيات جميع مكونات هذا الفضاء المتوسطي في ظل عولمة فرضت علينا مفاهيم وقيم جديدة ومشاكل معقدة تزداد حدتها مع تداعيات الأزمة الاقتصادية ومشكلات الهجرة ومخاطر التلوث البيئي وقضايا الإرهاب والإشكاليات التي فرضتها التطورات التقنية الحديثة في مجال التعاقد أو الإجرام مما فرض على مهنيي العدالة وفقهائه إيجاد حلول متقدمة وابتكار مقاربات ناجعة.
ولا شك أن وجود هذه الثلة من القضاة وخبراء القانون من مدارس فكرية مختلفة سيعطي لهذا اللقاء حيوية وزخما وسيفرز نتائج وتوصيات هامة.
واسمحوا لي في الختام أن أجدد لكم شكري وتقديري لكل من ساهم بالإعداد والتنظيم مؤكدا لكم أن قناعتنا كبرى بأن البحر المتوسط لا يفصل بين ضفتينا بل يجمع بينهما.
وأن محكمة النقض المغربية مستعدة دائما لكافة أشكال التعاون والشراكة لخلق جسور التواصل.
داعيا لكم بالتوفيق ولأشغالكم بالنجاح والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
مصطفى فارس
الرئيس الأول لمحكمة النقض
التعليقات مغلقة.