مدابغ الجلود بفاس، مهنة عمرها أكثر من ستة قرون

رؤيا من اعلى المدبغة

حنان الطيبي

يعد المغرب من أشهر الدول بدباغة الجلود، فهي تتميز منذ القدم بوفرة الجلود نظرا لغنائها بالمواشي التي بلغ عددها في ذلك الوقت حوالي عشرات الملايين رأسا، الشيء الذي شجع على ظهور صناعة الدباغة؛ وقد عرفت مدينة فاس العالمة منذ القدم بعدد كبير من الصناعة التقليدية والمهن الحرفية، وتتوجت على رأسها حرفة الجلود وتصنيعها بطرق جد بسيطة وتقليدية لتصبح حقائب زهية وأحذية جميلة ومنتجات جلدية مختلفة الألوان والأشكال يطبعها الطابع المغربي التقليدي الأصيل. وقد كان العمل بدار الدباغة مصدرا للغنى فقد كانت تسمى دار الدباغة منذ القدم إلى يومنا هذا بـ”دار الذهب”، نظرا للمردود الغني الذي يحصل عليه صاحب الدار، وبذلك كان هؤلاء الدباغين في فترة من الزمن فئة اجتماعية ذات مكانة كبيرة في المجتمع الفاسي، إلا أن الإسم ظل كما هو وقد تراجعت المداخيل وضؤلت مع مرور الوقت.
 وتعتبر “دار الدباغة شوارة  في مدينة فاس العتيقة من بين أربعة دور للدباغة التي ما تزال شامخة بمدينة فاس؛ فهي الأكبر حجما والأكثر إنتاجا، إذ تشتمل على عدة أحواض وصهاريج لغسل الجلود ومعالجتها قبل أن يصبح جاهزا للاستعمال والتسويق… وتنتج دار الدباغة “شوارة ” جلود الغنام والماعز والبقر، وهي تستخدم بعد معالجتها من طرف عدد من الحرفيين ويتم تصنيعها في حي (الشرابليين المتواجد بأحياء فاس البالي (إذ يعملون على إنتاج أحذية جلدية مثل “البُلْغَة” وهي مداس الرجل، ويذكر أن المصريين اقتبسوها من المغرب الذي كان يصدر لهم هذا النوع من الأحذية وهي معروفة بهذا الاسم بالأندلس أيضا. و” الدَبَّاغ “هو الذي يدبغ الجلد لتشذيبه وجعله صالحا للصنع.

آبار التلوين

ويقول محمد علمي صاحب أحد المحلات التجارية المختصة في تسويق الجلود في حي الطالعة بمدينة فاس: ( حرفة الجلد هي حرفة متميزة جدا وخصوصا الجلود المصنعة بمدينة فاس، وهي حرفة عرفت منذ القرن الرابع عشر… ومنذ ذلك الحين استثمرت هذه الصناعة في هذا القطاع محافظة على نفس الطرف الأولية ونفس الأساليب التقليدية في إنتاج وتصنيع الجلود؛ وإذا كانت فاس تضم العشرات من وحدات الإنتاج الجلدية والتي تساهم في تشغيل أزيد من  خمسة آلاف يد عاملة، وتنتج نحو عشرة أطنان من الجلود المخصصة للتصنيع يوميا، فإن هذا القطاع معرض للإفلاس بعد إقدام مؤسسات مالية مؤخرا على بيع العقار التابع لتعاونية معلمي الدباغة. هذا إلى جانب ما يشهده القطاع من مشاكل عويصة ومتلاحقة، من أبرزها تهريب الجلد المصنع المحظور تصديره خارج أرض الوطن من طرف شركات أجنبية، وضعف التسويق وتدني جودة الإنتاج..).

 ويقول محمد أبو سعد، وهو صانع يبلغ من العمر 60 سنة “أزاول مهنة الدباغة لأزيد من40 سنة، لقد تغير كل شيء، فعدد المعلمين فاق عدد الصناع، وازدادت أثمنة مواد الصباغة، إذ في السابق كان الدبغ يقدم من البرازيل ب 10 دراهم، على عكس ما عليه الحال الآن.. نشتري الدبغ المحلي ب 900 درهم ل 80 كيلوغراما، وهذا ليس في صالح الصانع التقليدي، كما ليس في صالح جودة المنتوج”.

تجفيف الجلد

عادة ما تغسل الجلود في “وادي الجواهر” ، وهو الوادي الذي يشق مدينة فاس إلى شقين أو عدوتين، عدوة القرويين وعدوة الأندلس، ويعمل الحمالون على حمل الجلود من وادي الجواهر إلى دار الدباغة، ونظرا لكون فاس القديمة عبارة عقبات ومنحدرات ولها ممرات ضيقة يصعب أن تدخل لها وسائل النقل الحديثة؛ فإن الدباغين كانوا -ومازالوا- يستعملون “الحَمَّارة” وهم أصحاب الحمير أو البغال لنقل الجلود وتوزيعها.. ، فعندما تخرج الجلدة من الكرنة تحول إلى دار الدبغ، حسب التصنيف، فمنها ما يأخذ إلى دار الدبغ سيدي موسى، كجلد البكري المناسب لصنع “النعل”، ومنها ما يأخذ لسوق “اللباطة”، حيث تجري عملية ” التمرين”، كجلد العنزي والغنمي مثلا، الذي تصنع منه البلغة الزيوانية، وهو النوع الأكثر جودة، ويسمى بالزيوانية نسبة إلى نوع الصباغة التي تصبغ به.

ويعمل الدباغ على غسل الجلود مرة أخرى في آبار خاصة وهو حافي القدمين وشبه عاري من الثياب سوى من ستر العورة، والمشهد مألوف لدى الدباغين وحتى المغاربة، إلا أن السياح الأجانب لا يستسيغون ذلك،  ومنذ قرون يقوم الدباغون بالعمل داخل تلك الأحواض باستعمال مواد طبيعية مختلفة ذات ألون متنوعة ، مثل : قشر البلوط و الرمان والحير والنعناع وغيرها من الأعشاب والملونات الطبيعية. اللون الاحمر لون أزهار بلعمان (الأقحوان) واللون الأخضر النعناع، والاسود هو لون الكحل. وتستعمل صبغات مادة الهيميلين، وصبغات الخشب الطبيعية والحمضية وبعض الأعشاب التي لها رائحة زكية والتي تتلف رائحة الجلد الكريهة، ويضاف الزيت لزيادة نعومة الجلد.. ويعمل الحرفيون على تحويل الجلود إلى أكياس ونعال وسترات ووسائد ومفارش، معتمدين جلود الغنم والبقر والإبل لا غير، ومستعملين عدة مواد من أجل معالجة الجلد بينها الجير البلدي، وفضلات  طائر الحمام والنخالة والدبغ وهي مواد لا تضر بالبيئة لأنها طبيعية، فضلا عن أعشاب تسمى  الخابوري والزعفراني، وتاكاوت، والتي تعطي اللون الزيواني الطبيعي، فبعد أن يدخل الجلد دار الدبغ يمر بمرحلة المركلة وهي الأحواض، التي ترقد فيها الجلدة لمدة 10 أيام، والمركل هو مكان تغسل به الجلود، وبعد أن تخرج الجلدة من “المركل”، تدخل إلى “جفنة” أو ما يسمى بالقصرية. وبعد أن تخرج الجلود من «القصرية» تجفف في حي «باب الكيسة» أو «باب الحمراء»، وكانت الجلود عادة تجف بباب الكيسة حيث توجد تلة مرتفعة. وبعد أن تجف الجلود تصل إلى مرحلة «الدلك» أو التقشير حيث يزال منها ما تبقى لكي تصبح لينة أكثر.

حرفي بورشة للجلد

وقد تم تأسيس المدابغ هنا منذ العصور الوسطى، أما هذه فهي واحدة من الأكثر قدما وإثارة في مدينة فاس… العرسة الكبيرة” أو “شوارة الدورية”، أسماء لدور الدباغة، الموجودة بمدخل واحد، في المدينة العتيقة لفاس، استقرت فيها منذ 300 سنة، محاطة بأحياء درب الطويل، والبليدة، وبين المدون، وكانت تعرف بدار الذهب أيضا، وهي محاذية لمجرى واد الجواهر، وتمتد مساحتها الإجمالية على حوالي 3500 متر مربع، وتضم قرابة 700 صانع، يتوزعون على 400 محل لصنع المنتوجات الجلدية.

ويقتني المنتوجات الجلدية بالدرجة الأولى السائح الأجنبي القادم من إسبانيا وإيطاليا وفرنسا، ويأتي في الدرجة الثانية السائح المغربي القادم من مدن مغربية أخرى كأكادير والدار البيضاء ومراكش، ويتوق الكثير من السياح خاصة الاجانب الصعود أعلى المدبغة حيث يمكن لزائر المكان أن يطل على آبار المدبغة من فوق السطح، والتي تحفها بنايات  عبارة عن فنادق قديمة ومحلات، ومساكن مهددة بالسقوط، يبلغ عددها 7 محلات تجارية، تتخصص في بيع كل المنتجات ذي الصلة بالجلود.

منتجات جلدية

ولقد اعتاد الحرفيون والعاملون في الجلد منذ القدم على الغناء وترديد الأهازيج، إذ يعرف أصحاب هذه المهنة بقوتهم البدنية كما يعرفون بقوة حناجرهم. وكثرة من مطربي الملحون (وهو أحد الألوان الغنائية التقليدية في المغرب) كانوا دباغين، ذلك لأن البنية القوية لعمال الدباغة تساعدهم على ما يسمى بـ(الكباحي) وهو عبارة عن أهازيج يتغنى بها الدباغة أثناء مزاولتهم العمل».

ويعمل علي في هذه المدبغة رفقة حوالي 1200 شخص، كان علي يدوس الجلود برجليه بطريقة إيقاعية وهو يقول: “لعلاج الجلود يتطلب الكثير من الماء ويتم الضغط عليها بالأقدام في أحواض الدباغة والتلوين.. يبدأ المشوار في هذه الحرفة داخل المدبغة بجمع النفايات، ثم يرتقي الحرفي بعد ذلك إلى قسم الجير، وعندما يكتسب خبرة كافية مع مرور الأيام يسمح له بالدخول إلى أحواض المدبغة وملامسة الجلد لأول مرة.. هذه الأعمال لا يستطيع أن يقوم بها إلا الشباب ذووا البنية  الجسمانية القوية بينما يعهد للمسنين أعمالا لا تتطلب مجهودا بدنيا كبيرا… نحن محظوظون؛ إنها ليست ساخنة جدا في الصيف وباردة في الشتاء.. ونسيم طفيف يستطيع تبديد الرائحة الكريهة…هي مهنة نرثها عن آبائنا الذين ورثوها بدورهم عن أجدادهم، مهنة أصبحت تجري في الدم، لا نستطيع الاستغناء عنها أو تبديلها أبدا..”.

Share

عن Al intifada

تحقق أيضا

الولايات المتحدة تجدد تأكيد دعمها لمخطط الحكم الذاتي المغربي

الانتفاضة – و م ع جدد وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، يوم الاثنين، تأكيد دعم …