كلمة وزير العدل والحريات بالجلسة الافتتاحية للمناظرة الوطنية حول إصلاح منظومة العدالة بمراكش

1379097563

خلال الجلسة الافتتاحية للمناظرة الوطنية حول إصلاح منظومة العدالة  المنظمة من طرف الملتقى الوطني لمنظومة العدالة بتاريخ 27-28 فبراير 2015 بمراكش، القى وزير العدل والحريات كلمة بالمناسبة هذا نصها:

–      السيد  الرئيس الأول لمحكمة النقض

–      السيد رئيس جمعية هيئات المحامين

–      السادة المسؤولون القضائيون والسادة النقباء

–      السادة القضاة والسادة المحامون

–      السادة رؤساء الهيئات الوطنية وممثلو المهن القضائية

حضرات السيدات والسادة:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

يسرني أن أتواجد بينكم اليوم، تلبية لدعوة كريمة من الهيئة الوطنية للملتقى الوطني لمنظومة العدالة للمشاركة في هذه المناظرة الوطنية الهامة التي يختزل شعارها كنه الإصلاح وجوهره، ويدعونا إلى التأمل في ما تم إنجازه، والتفكير في ما يمكن تطويره وبلورته للارتقاء المستمر بمستوى العدالة في بلادنا، والتي نريدها أن تكون مستقلة ونزيهة وناجعة.

الشكر موصول إلى كل الحاضرين من شتى المشارب الفكرية والمهنية التي نأمل فيهم خوض نقاش مثمر وبناء تتحقق منه الفائدة ونجني منه الغايات التي ننتظرها والأهداف التي ننشدها.

 

حضرات السيدات والسادة:

إن التأمّل في الموضوع الذي وقع عليه اختياركم، ليكون مجال التناظر في هذا اللقاء، يترجم مدى الوعي الذي يستشعره الجميع بأن رهان استقلال العدالة ونزاهتها ونجاعتها مسألة تهم كل أطياف المجتمع، وأن الكل مدعو للإسهام في إنجاح هذا الرهان، والانخراط فيه بضمير حي ومسؤولية راشدة.

فالعدالة دون استقلال ليست سوى تبعية مقيتة وانبطاح ممجوج، والعدالة دون نزاهة ليست سوى ظلم وجور وحيف، والعدالة دون نجاعة ليست سوى تسويف ومطل وخذلان.

ولا حاجة بي إلى الاستطراد في بيان ما يشكله هذا الثالوث الذهبي في ميزان العدالة، التي تعد إحدى الضرورات التي لا  يستقيم المُلك ولا يصلح العمران إلا بها؛ فالعدل مألوف وبه قوام العالم كما يقول أرسطو، و الظلم مؤذن بخراب العمران كما يقول ابن خلدون.

حضرات السيدات والسادة:

لمّـا كان إيماننا راسخا بأن ورش الإصلاح كبيرٌ وغيرُ مسبوق، فقد كان لا بد من تجنيد كل الطاقات وتوفير كل الإمكانيات المتاحة على مستوى وزارة العدل والحريات من أجل الانخراط فيه بصدق، والنفاذ إليه بعمق.

ولما كانت الفكرة لا تَحْيَـــــــى بحق إلا من خلال تكريسها على أرض الواقع، وتجسيد مقتضياتها و تنزيلها التنزيل السليم الذي يضمن لها الفاعلية والاستمرار، فقد تجاوزنا مرحلة التنظير إلى مرحلة التنفيذ، بالشروع في وضع البناء التشريعي المؤسس لما تعرفه بلادنا من طفرة في المجال القضائي.

و هكذا، فعلى صعيد استقلال السلطة القضائية، رفع الدستور السقف عاليا وأنتج مقتضيات تضمن هذا الاستقلال بشكل يستجيب للمعايير الدولية، وهو ما عملنا على تجسيده من خلال مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، ومشروع القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، مسترشدين في ذلك بتوصيات ميثاق إصلاح منظومة العدالة، وآخذين بنهج التشاور الواسع مع كافة المؤسسات والهيئات المعنية، ومع عموم القضاة والفاعلين في المحيط القضائي على مستوى كافة الجهات.

وأملنا كبير في أن يسهر البرلمان على الإبصام الإيجابي على هذين المشروعين بالتعديلات المفيدة، وبالمصادقة في الزمن الملائم حتى يتسنى إخراج المجلس الأعلى للسلطة القضائية إلى الوجود قريبا، ويكرس بذلك الاستقلال المؤسساتي للقضاء بعد أن كرسناه فعليا بشكل لا مراء فيه، وتكون بلادنا بذلك قد أعادت صياغة مؤسساتها طبقا لمتطلبات البناء الديمقراطي المؤسس على ثلاثية السلطات في إطار من الاستقلالية والتعاون والتوازن، كما ينص على ذلك الدستور، وفي سياق إصلاحات ناجعة تتأسس بتدرج وثبات برعاية ملكية حكيمة.

غير أنه لا يجوز أن يدفع الحماس لاستقلال السلطة القضائية البعض إلى تصورات لا أساس لها في الدستور، ولا تخدم في شيء عمق هذا الاستقلال؛ ذلك أن ما هو قضاء فهو قضاء، وما هو إدارة فهو إدارة…وكلاهما مرفقان لدولة واحدة يقوم عليهما كيانها في انسجام يتوخى مصلحة المواطن وتقديم خدمة العدالة على أحسن وجه، في إطار قاعدة الاستقلال والتوازن والتعاون، بعيدا عن منطق الصراع والنزاع.

        حضرات السيدات والسادة:

إن المرحلة التي نعيشها ستشهد بلورة مشاريع قوانين تمثل ثورة تشريعية حقيقية عددا ونوعا؛ فبالإضافة إلى ما نحن عازمون عليه من إصدار مشروع القانون التنظيمي المفعل لمقتضيات الفصل 133 من الدستور، والمتعلق بالدفع بعدم دستورية القوانين أمام القضاء، قمنا بوضع مشروع القانون المتعلق بالتنظيم القضائي، ومشروع قانون المسطرة المدنية، وكلاهما سيمثلان، بحول الله، طفرة نوعية في مجال ضمان النجاعة القضائية ستمكن من تجاوز كافة الإشكالات والمعوقات التي يعاني منها التقاضي، سواء من حيث قرب العدالة، أو حماية حقوق الدفاع، أو سرعة البت في القضايا…كما أننا قمنا، في إطار التفاعل البناء مع كل المقترحات الوجيهة، بتخصيص التحكيم والوساطة بنص خاص مستقل عن قانون المسطرة المدنية.

ومن جهة أخرى، وكما تعلمون، فإن مشروع قانون المسطرة الجنائية الذي أُنجز على الوجه الذي يضمن تطورا تشريعيا يُضاهي أحدث التشريعات الدولية قد تم الانتهاء منه، وهو الآن محل تداول الرأي بين وزارة العدل والحريات والأمانة العامة للحكومة. وبالنسبة لمشروع القانون الجنائي فقد تم الانتهاء من وضع صياغته، وسيتم الإعلان عنها قريبا قبيل تنظيم ندوة وطنية خلال الأسبوع الأول من شهر أبريل، وذلك لتلقي كافة الملاحظات والاقتراحات؛ ومنذ الآن أبشركم أن هذا النص تضمن أحدث النظريات الجنائية، وجل المطالب الحقوقية، وقنن الاتفاقيات الدولية، فضلا عما تضمنه الدستور واقترحه ميثاق إصلاح منظومة العدالة.

وكما تعلمون، حضرات السيدات والسادة، فإن هذه النصوص الوازنة تمت وتتم في تشاور تام مع كافة مكونات منظومة العدالة. وهنا يجدر التذكير أن التشاور يعني حسن الاستماع إلى الرأي الآخر، والاستفادة منه، وأخذ أحسنه “الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه”، بما يخدم المواطن أولا، ثم بما يرفع شأن المهن ثانيا.

ولقد أكدتُ مرارا على أن المصالح الحقيقية للمهن لا يمكن أن تتناقض مع المصالح الحقيقية للمواطن؛ فحيثما كانت مصلحة المواطن فتم مصلحة المهن؛ هذا ما هداني إليه تأملي في كل ما اقترحناه من نصوص دون أن يعني ذلك أنها نصوص منزهة عن النقص، وخالية من العيوب. فكما تعلمون، فإن النص الواحد من مشاريع القوانين التي اقترحناها له العديد من النسخ تتغير وتتطور بقدر ما نتلقاه من مقترحات وجيهة، وما يعن لنا في إطار القراءة وإعادة القراءة من تحسينات وتصويبات ستظل تتوالى إلى أن تتم المصادقة على النص برلمانيا بحول الله، وسنبقى خلال الرحلة الطويلة والمضنية لهذه النصوص في الاستماع إليكم جميعا وإلى كل من يهمه الأمر حتى يتحقق فيها خير ما نرجوه جميعا من حسن الصياغة وجودة المضمون.

حضرات السيدات والسادة:

إضافة إلى النصوص الأساسية المذكورة هناك نصوص أخرى في طور الإنجاز، وهي في غاية الأهمية، ومنها: * مشروع قانون يعدل الكتاب الخامس من مدونة التجارة؛ * مشروع قانون بتعديل قانون صندوق التكافل العائلي؛ * مشروع قانون يتعلق بتعديل قانون كفالة الأطفال المهملين؛ * مشروع قانون يتعلق بالطب الشرعي؛ * مشروع قانون يتعلق بالنظام العام المطبق على مراكز الطفولة وإعادة الإدماج؛ * مشروع قانون يتعلق بالمصاريف القضائية في الميدان المدني والإداري والتجاري وأيضا الميدان الجنائي؛ * مشروع قانون يتعلق بالمساعدة القانونية والقضائية؛ * مشروع قانون يتعلق بتنظيم شهادة اللفيف؛ * مشروع قانون يتعلق بالمرصد الوطني للإجرام…إلى جانب مجموعة أخرى من النصوص القانونية التي تشكل ثورة تشريعية سيسجلها التاريخ بكل فخر واعتزاز لبلادنا.

حضرات السيدات والسادة:

في ختام هذه الكلمة لا يفوتني أن أذكر أن هذه السنة ستشهد، بحول الله، حوارا سنحرص على أن يكون بناء ومفيدا مع كافة المهن القضائية لإعادة صياغة القوانين المنظمة لها بما يتلاءم وحاجيات العدالة ومتطلبات التحديث، بدئاً بمهنة المحاماة ثم مهن المفوضين القضائيين والعدول والنساخ والموثقين والخبراء والتراجمة؛ وتأكدوا أن هذا الحوار الذي سنسترشد فيه بمقتضيات الدستور وميثاق إصلاح منظومة العدالة سينتج، بحول الله وعونه، تشريعات تؤطر المهن القضائية بما يخدم العدالة ويكرس المصالح المشروعة لأهلها وللمواطن المسخرون جميعا لتحقيق مصالحه في الحال وفي المآل.

إلا أن هذا الإصلاح برمته لن يكون ذا مفعول وقيمة إذا لم تتحلَّ جميع مكونات العدالة بما أسماه جلالة الملك، حفظه الله، بالضمير المسؤول؛ الضمير المسؤول، حضرات السيدات والسادة هو أساس الإصلاح وجوهره، وبدونه سيظل هذا الإصلاح، الذي نحن بصدده، مجرد نصوص غير ذات جدوى.

حضرات السيدات والسادة:

إن من دعائم إصلاح منظومة العدالة الاهتمام بكل الجوانب المتعلقة بالتخليق؛ فإذا كان تخليق القضاء أمرا لا يتأتى إلا بالانخراط الواعي والمسؤول لكل الفاعلين في الحقل القضائي، فإن النزاهة تعد فيه بمثابة الثمرة التي يتعذر جنيها إن لم تكن قطوفها دانية. وما يجعل هذه القطوف دانية هي مدى ما يتحلى به القاضي وكاتب الضبط والمحامي ومهنيو القضاء وباقي المعنيين من أخلاق مشرفة لا تعتريها المداراة في الحق.

فمهما يوضع من قوانين، ومهما يسن من ضوابط ومعايير، فالرهان الأول والأخير يبقى هو العنصر البشري الذي ينبغي أن تتوفر فيه شروط ومقومات النزاهة بما يعنيه ذلك من شرف الذمة، وعفة النفس، وصحوة الضمير.

 أتمنى مجددا لأشغال هذا الملتقى الهام كامل التوفيق والسداد، والنجاح والرشاد.

فالله نسأل أن يجعلنا “من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه”، إنه على ذلك قدير، وبالاستجابة جدير.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

                                            وزير العدل والحريات

                                                                    المصطفى الرميد

Share

عن Al intifada

تحقق أيضا

الحكومة تشرع في مراجعة النفقات العمومية لقطاعي الماء والتعليم

الانتفاضة خلص اجتماع موسع ترأسه، أمس الأربعاء بالرباط، كل من الوزير المنتدب لدى وزيرة الاقتصاد …