ياوصال…! لقد اصابتنا اهانة العقال. (3)

الانتفاضة

بدأ المسافرون يغادرون المقصورة تباعا عند كل محطة يقف عندها القطار. أسدل الليل ستاره على العالم الخارجي حيث لم تعد تبدو اليافطات واضحة ولا مقروءة مع تقطع في صوت المجيب الآلي الذي تخلى عن ترديد جمله الروتينية . مما أربك الجميع ودفع البعض إلى إستفسار متخوف وفضول حثيث عن المحطات القادمة المتبقية. فشكل مدخلا لحوارات ثنائية أو جماعية.
أمدت وصال قنينة ماء لرجل في عقده الرابع طلبها بعدما رفع رأسه الذي كان مدسوسا في الجريدة. شكرها على معروفها بعينين متلصصتين وهو يغازل محياها بكلمات كشراك يبحث عن صيد ثمين. محاولا إظهار ملامح وظيفة راقية حيث يشتغل مديرا لشركة. كل مرة يظهر ساعته الذهبية ومفاتيح كثيرة ومذكرة ذات لون صقيل ومحفظة جلدية توحي بمستواه الإجتماعي وملفات مرصوصة بعناية. يظهر جليا أنه فعلا مسؤول من نوع خاص يتمتع بمنصب راقي. إندمجت وصال معه في النقاش تبادله إبتسامة خفيفة بغنج مبالغ فيه. وفي كل مرة تمرر على صدرها قارورة عطر انعشت الفضاء من جديد.
فتح حوار عن معلومات شخصية في بداية الأمر بالضرورة يعتريها التلميع والإقتضاب وربما التدليس لأن في الغالب التحفظ هو سيد الموقف بادرها بسؤال عن عملها أجابته وهي تداعب شاشة هاتفها النقال أنها تعمل في وحدة سياحية بمدينة شاطئية. بينما أجابها هوالآخر أنه يشرف على وحدة إنتاجية جنوب المغرب حيث يعيش وحيدا بعدما غادر بيت الأسرة لثلاث سنوات هاجر فيها شلة الأصدقاء والحي. إندمجا في النقاش لدرجة لو ألقيت النظرة للوهلة الأولى لحسبتهما زميلين في العمل أو عروسين في شهر العسل. كلما إقترب منها وهو يجس الوضع إلا وابتعدت بمسافة تقطع الشك باليقين أنها فطنة لدسائسه.
بادرها بسؤاله المباشر.: هل أنت متزوجة سيدتي ؟ وهويعتقد أنه سيحسم المسالة . لكنها أجابته بذكاء أنها غير معنية بهذا الأمر وغير متحمسة له . بل زادت بكلمات أحبطت عزيمته. إسمح لي لا أفكر بالزواج أصلا فالموظف كيفما كان مستواه يعيش بالقروض والسلفات ، كما يعيش المريض بالمسكنات ،تخفف من وضعه المتأزم لكن لن تحل مشاكله اليومية والمستقبلية .لمعلوماتك سيدي أن مستوى عيشي يستحيل أن يوفره لي موظف مغربي :
لي ولد واحد ترعاه مربية فليبينية وأتوفر على إستشارة طبية كل صباح ورصيد بنكي يفوق ثلاثين ألف درهم كل شهر دون العمولات والحوافز التي قد تصل إلى خمسين الف درهم ويزيد ، أمارس أنشطة يومية كلفتها راتب موظف. هل تعتقد أنني سأضع كل هذا تحت سيطرة ورحمة موظف يحصي أيامه وأنفاسه كسجين معتقل .
إبتلع الموظف المسكين ريقه في حرج وهو يعدل ربطة عنقه والعرق يتصبب منه ولم يعقب وانتقل بسرعة خاطفة الى سؤال أحد الجالسين بالقرب منه محولا الانتباه و النقاش : من فضلك هل إقتربنا من محطة “سيدي العايدي” ؟
موقفا سيلا من المعطيات التي صدمته بلاعودة .
وصال اصبحت إنسانة أخرى من طبقة أخرى ليس بالسهل الحوار معها وإقناعها لأن ماعاشته من تجارب ومحن جعل منها شخصية مغايرة ، فهي تمارس شقاوتها بعنفوان الشباب الثائر انتقاما من وضع اجتماعي لم يرحم ، فصرخة امها المترددة بدواخلها في كثير من الأحايين لاتفارقها ،لكنها تجعلها مكتملة غير ناقصة سامقة معرجة الى السماء على شكل مناجاة محدثة ردا مدويا لاينته :
” ياوصال ،لقد اصابتنا إهانة العقال “
ذ ادريس المغلشي.

التعليقات مغلقة.